الثورتان التونسيّة والمصريّة: واقعان متشابهان فماذا عن الآفاق؟
مصطفى القلعي
الثورات العربيّة واقع حالم. هي واقع متحقّق في التاريخ يحتاج من النقّاد والباحثين والمؤرّخين إلى قراءات تفكّكه وتقرؤه وتثبّت صفة الحلم فيه حتى لا تتعاوره الكوابيس. والقراءة النقديّة لأيّ ظاهرة تفترض، على المستوى المنهجيّ، التشخيص الدقيق للواقع قبل التفكير في الآفاق. وسأقصر حديثي على الثورتين التونسيّة والمصريّة لأنّهما الأوليين في ترتيب الثورات العربيّة ولأنّي أعرف بهما من غيرهما(1) ولأسباب أخرى سيرد ذكرها أثناء الكلام.
وقراءتي لهاتين الثورتين لم تكن يسيرة وأنا أتحسّس أدوات الفحص والتفكيك المناسبة قبل أن أتفطّن إلى جدوى العامل الزمنيّ الذي بدا لي مفيد جدّا فيما أعزم عليه. فهما ثورتان متشابهتان في مستوى المسار الثوريّ أثناء الأحداث الثوريّة والحاكم موجود وبعيد إسقاطه. ثمّة واقعان متشابهان كثيرا عرفتهما الثورتان سأتحدّث عنهما بعد حين. ولن أعود في هذا المقام إلى الحديث عن العوامل الممهّدة للثورة لأنّي تحدّثت فيها في مقال سابق.(2)
1. الواقع الأوّل: الثورة قبل سقوط الديكتاتور
أخيرا، وبعد يأس كان مطبقا، تنتفض الشعوب العربيّة على حكّامها الظالمين وأنظمتها المستبدّة في المغرب العربيّ أساسا. إنّ ما حدث في تونس ثمّ في مصر كان مزلزلا للعالم لثلاثة أسباب في رأيي. الأوّل أنّ الشعوب العربيّة كانت محكومة بقبضة أمنيّة خانقة لا تسمح بنفس من الحريّة توهم للحاكم بأنّه مسيطر على شعبه سيطرة كاملة(3). الثاني هو مظاهر الولاء والمناشدة والمباركة والرّضى التي كانت تبديها هذه الشعوب لحكّامها. الثّالث هو طبيعة الانفجار المفاجئ لهذه الثورات على المستويين الإعلاميّ والسوسيولوجيّ على الأقلّ.
لقد نجحت الثورتان التونسيّة والمصريّة في إسقاط حكّامهما بشكل فرديّ. لقد شاهدنا إصرار الشعبين على إسقاط الحاكم. ورأينا التآزر الشعبيّ والشجاعة والفتوّة والاستعداد للفداء والتضحية من خلال مواجهة الرّصاص وقوافل البوليس المدجّجة بالأسلحة بصدور عارية في ملاحم شعبيّة مدوّخة قادمة من زمن الأساطير.
ولابدّ من التأكيد على أنّ المشهد المجتمعيّ في تونس الثورة كان واحدا.. لا تيّارات سياسيّة ولا قادة ميدانيّين. كان الثائرون وحدهم يخطّطون ويتنظّمون ويقودون. ولم يكن للتيّار الإسلاميّ بأيّ وجه من وجوهه وجود ولا دور في الثورة التونسيّة. في مصر، كان الوضع مختلفا. فالإخوان كانوا موجودين على الساحة السياسيّة. ولكنّهم كانوا يمارسون التكتيك، ينتظرون الكفّة الرّاجحة ليملوا معها. ولمّا مالت كفّة الثائرين نزلوا إلى الميدان. فلم يكن الإسلاميّون لخوض أيّة معركة سياسيّة ولا ميدانيّة مع السّلطة. كانوا يهادنون وينتظرون القسمة والنّصيب. كانوا يشتهون السّلطة. هذا هو الهدف: السّلطة. وكلّ الوسائل والتكتيكات مشروعة من أجل تحقيق هدفهم حتى وإن كان خذلان الثورة والتحالف مع النظام لو ثبت رجحان كفّته.
أمّا في تونس فثمّة معطى حاسم لا يستقيم تحليل دون الوقوف عنده هو المعطى النقابيّ. فقد شهد المجتمع التونسيّ ميلاد الحركة النقابيّة والعمليّة مبكّرا منذ عشرينيّات القرن الماضي. وقد كانت النقابات دائما نصيرة الشعب ونصيرة الحريّات وشوكة في حلق السّلط جميعا الاستعماريّة والتي جاءت بعد الاستعمار. لقد كان الثائرون التونسيّون مؤطّرين من قبل النقابيّين اليساريّين إذ كان لِدُور اتّحاد الشغل دوْر كبير في احتضان المحتجّين وتوجيههم. كما كان النقابيّون على الميدان وفي السّاحات يشاركون في صنع الثورة. أمّا في مصر، فقد كان مسار الثورة مختلفا إذ أنّ الثائرين المصريّين اختاروا التعبير عن الاحتجاج عبر الاعتصام في ميدان التحرير الذي يعدّ الشريان الأكثر حيويّة في قلب القاهرة.
وقد كان تعامل النظامين التونسيّ والمصريّ مع الثائرين المحتجّين واحدا تقريبا. إنّه تعامل قائم على التخوين والتشويه والتصفية الجسديّة للثائرين والحديد والنّار، من جهة، وحشد الأنصار وتعبئتهم لمواجهة الثائرين ولإخراج مسرحيّات موالاة بائسة. أمّا بين الثائرين فقد كان العزم والصّبر والاتّحاد والتآزر والتضامن.
بالنسبة إلى الإعلام فهو نوعان تقليديّ وبديل. الإعلام التقليديّ كان على وجهين؛ وجه الإعلام الرسميّ الحكوميّ ومن والاه ووجه الإعلام الأجنبيّ. الأوّل كان يعمل في الدّاخل أغلبه وكان مساندا للنظام إلى آخر رمق فيه. والثاني هو الإعلام الدوليّ وكان مساندا للشعب وللثورة أغلبه. وبالنسبة إلى الإعلام البديل فقد تمثّل في شبكات التواصل الاجتماعيّ وأهمّها فايسبوك الذي تحوّل إلى مصدر منه تستقي شبكات الأخبار الدوليّة أخبارها وصورها وموادّها عموما. وقد كان عصيّا على السّيطرة رغم محاولات التشويش. وقد نجح هذا الإعلام البديل في كشف الحقائق وفي فضح النظام. فكان ينقل جرائم القتل آن وقوعها مباشرة ممّا حشد الرّأي العام الدوليّ ضدّ النظامين التونسيّ والمصريّ فخفّف من حولهما الأنصار وحشد الخصوم المتعاطفين مع الثورة والثائرين.. فتهاوى النظامان سريعا. فهرب الرّئيس التونسيّ إلى جدّة تاركا فراغا في السّلطة، فيما تخلّى الرّئيس المصريّ عن الحكم وسلّم السّلطة إلى المجلس العسكريّ.
2. الواقع الثاني: الثورة بعد سقوط الديكتاتور
قبل سقوط النظامين التونسيّ والمصريّ كان المشهد واضحا. واللاعبون أيضا كانوا واضحين: الشعب ضدّ الحاكم. والعالم كان ميّالا إلى التعاطف مع الشعب الثّائر. فيما لم تكن هناك آثار ولا علامات على أيّ تدخّل أجنبيّ في كلا الثورتين. وبعد سقوط الديكتاتوريّة، تغيّرت ملامح المشهد الاجتماعيّ والسياسيّ. ففي مصر تولّى المجلس العسكريّ كلّ السّلطات بما فيها تنصيب الحكومة. وأدار بنفسه كلّ دواليب الدولة والمجتمع. وأشرف على الانتخابات وتعرّض للرّفض والاحتجاج. فقابل المحتجّين بشراسة في وقائع كثيرة أهدرت فيها أرواح مصريّين كثيرين.
هذا الواقع المصريّ الثاني مختلف عن الواقع التونسيّ. بل إنّ الواقعين متقاطعان. فحجم المؤسّسة العسكريّة في مصر كبير. وهي لاعب أساسيّ في أيّ مشهد سيتشكّل في مصر. بل تذهب بعض التحليلات إلى أنّها تتدخّل في كلّ شيء وتوجّه كلّ شيء وتتحكّم في كلّ شيء بما في ذلك الانتخابات بمختلف مراحلها.
في تونس لم يتحوّل الجيش إلى مؤسّسة عسكريّة. وإنّما ظلّ جيشا شعبيّا في خدمة الشعب. ولم ينقضّ على السّلطة حين كان كرسيّها شاغرا. ولم يطلبها. وبدا دائما مؤمنا بالشرعيّة ملتزما بها. فقد رأيناه مطيعا لكلّ الحكومات التي تشكّلت بعد الثورة؛ حكومتي الغنوشي الأولى والثانية المسقطتين وحكومة قايد السبسي ثمّ حكومة الجبالي الائتلافيّة التي تشكّلت بعد الثورة.
المشهد المجتمعيّ في تونس الآن هو تقريبا على هذا الشكل: حكّام جدد انقضّوا على السّلطة بشكل شرعيّ طبعا. فلقد مارسوا مع الخصم لعبته (أقصد لعبة الديمقراطيّة والانتخابات) وانتصروا عليه فيها وهم إسلاميّون عقيدة وليبراليّون اقتصادا. وأنصار النظام المخلوع أعدادهم ضخمة وإمكانيّاتهم التمويليّة والتنظيميّة هائلة، وهم إمّا ممنوعون من النشاط السياسيّ في تونس، وإمّا متأرجحون بين السماح بالنشاط والمنع منه في مصر. ولكنّهم لم يستسلموا ويحاولون المداورة والتلوّن بأشكال مختلفة. ولم تحسم الحكومات الجديدة في شأنهم. ويبدو أنّهم موضوع مزايدة ومساومة سياسيّة.
كما توجد في المجتمعين الثائرين التونسيّ والمصريّ أطياف أخرى من التيّارات اليساريّة والقوميّة والليبراليّة التي لم تنجح في شيء؛ لا في الانتخابات ولا في التوحّد ولا في التأثير في الواقع ولا في الأحداث ولا في حشد أنصار لا في الدّاخل ولا في الخارج، رغم أنّ لها شرعيّة ثوريّة باعتبارها كانت موجودة في الدّاخل وواجهت النظام مباشرة في العمل السياسيّ أو بصورة غير مباشرة في العمل النقابيّ.
المهمّ في نظري هو تشخيص هذا الواقع الجديد تشخيصا دقيقا. أقصد أنّه بعد سقوط الديكتاتوريّة، طلعت الأجندات السياسيّة المتعارضة المتصادمة في أحيان كثيرة. ولا يمكن أن ينسى اللاعبون السياسيّون الجدد أنّهم كانوا متحالفين متّحدين موحّدين نضالاتهم ضدّ الديكتاتوريّة. لكنّهم بعد زوال العدوّ المشترك حوّلت العداوة وجهتها لتقيم بين رفاق نضال الأمس. فقد تغيّر الرّهان من مقاومة الديكتاتوريّة إلى الحكم.
وتغيّر الرّهان السياسيّ هو ما ولّد قضايا مغلوطة ومسارات ملويّة أعناقها غصبا نحو وجهات خاطئة. من ذلك طرح قضيّة الهويّة وقضيّة المقدّسات وقضيّة تولّي مهمّة الدّفاع عن الإسلام وقضيّة تغيير النمط المجتمعيّ بالقوّة وقضيّة قلب وسائل الإنتاج. أقول هي قضايا مغلوطة لأنّها لم تكن كلّها من مطالب الثورة، في تونس بصورة خاصّة. كانت مطالب الثائرين تتلخّص في شعار “خبز.. حريّة.. كرامة وطنيّة”.
والغريب أنّ أهل المشهد الجدد لا ينظرون حولهم إلى جيرانهم الأوروبيّين ليستفيدوا من تجاربهم. فنرى في فرنسا وإيطاليا وألمانيا الحكّام يتغيّرون دون أن تتغيّر هويّة مجتمعاتهم ولا أنماط الإنتاج الاقتصاديّ ولا حتى سياساتهم الخارجيّة ومواقفهم من القضايا الدوليّة. فلماذا نخشى نحن من الأسلمة من قبل الإسلاميّين ومن التغريب من قبل اليساريّين والعلمانيّين؟ ألهذا الحدّ نحن سطحيّون في رؤيتنا للمجتمع؟ هل المجتمع هشّ هشاشة البيضة؟ فوبيا من هنا وفوبيا من هناك. والقضايا الرئيسيّة لم تثر بعد.
غير أنّ اللاعبين السياسيّين ما انفكّوا يوجّهون الرّأي العم نحو هذه القضايا خدمة لأجنداتهم. وهم يذهبون حتى إلى درجة الشحن والتعبئة اللذين يؤدّيان إلى مشاكل أمنيّة واضطرابات اجتماعيّة، كما حدث مع ما يعرف في تونس بقضيّة قناة نسمة وما يحدث اليوم ممّا يعرف باسم قضيّة معرض قصر العبدليّة.
اللعبة في تونس الآن واضحة: السّلطة من أمسك بها لا يتصوّر أنّها سيتركها من جديد بعد صبر طويل، ومن لم يقبض عليها مازال يشتهيها ولا يطمئنّ لرؤيتها بين يدي أصحابها الجدد. اللعبة لعبة سلطة لا غير. أمّا الثورة والثائرون ومطالبهم فإنّها جميعا محلّ مزيادة وتجاذب وحسابات وتكتيكات. كلّ شيء بميزان الرّبح الخسارة وبمكيال المصلحة السياسيّة الحزبيّة. ولا توجد خطوط حمراء؛ لا مصلحة الوطن ولا أهداف الثورة. كلّ شيء قابل للتوظيف البراغماتيّ السياسيّ وللمزايدة على الخصوم. نقاط تسجّل هنا وهناك في الحسابات السياسيّة للأطراف السياسيّة المتنازعة على السلطة في تونس الكئيبة.
3. الآفاق الثوريّة
سؤال آفاق هذه الثورات العربيّة سؤال ملحّ الآن. وإثارته تتطلّب التحلّي برؤية استشرافيّة قادرة على التفكير في تصوّر للمستقبل بناء على معطيات الماضي (قبل الثورة وأثناءها) والحاضر (بعد الثورة). لابدّ، في هذا السياق، من جمع الآراء الواصفة للحظة الرّاهنة في تونس التي سأكتفي بالحديث عن آفاق ثورتها. وهذه الآراء ثلاثة: الأوّل يردّده أصحاب السّلطة ومفاده أنّ الثورة نجحت وأنّ دور الثائرين قد انتهى وعليهم أن يعودوا إلى بيوتهم ونحن سننجز الباقي. والثاني هو رأي المعارضة التي ترى أنّ الثورة قد سرقت من الثائرين وأنّ المستولين على السلطة لن يحقّقوا أهداف الثورة بل إنّهم يخدمون أجندات خارجيّة. والثالث يردّده الثائرون أنفسهم ويتلخّص في شعار “الثورة مستمرّة”.
أعتقد أنّ الإشكاليّة التي أدّت إلى انفجار الثورة في تونس ذات أبعاد ثلاثيّة؛ بعد تربويّ وبعد قيميّ أخلاقيّ وبعد قانونيّ. ولا يمكن في نظري أن يستقيم لهذه الثورة نجاح دون الوقوف عند هذه الأبعاد الثلاثة. فالنظام المخلوع كانت قيمته العليا هي الكسب والإثراء مهما كانت السبل والأساليب. بل تحوّل الإثراء إلى مظهر تفاخر على أبناء الشعب المسحوق. ووظّف النظام المخلوع أجهزة الأمن والإعلام والإدارة لتحقيق قيمته العليا. فتهاوت منظومة القيم المعلاة كلّها لأنّ الكسب غير المشروع لا يكون إلاّ بالتحيّل والتبرير والشرعنة والصمت. وكان كلّ شيء موضوعا للإثراء بما في ذلك قطاع التربية والتعليم الذي كان النظام البورقيبيّ قد عدّه ثروة وطنيّة راهن عليها لإنتاج رأسمال وطنيّ منتج في الدّاخل وقابل للتصدير إلى الخارج.
لكنّ النظام النوفمبريّ تجرّأ على هذا القطاع وأدخل في دائرة مصادر ربحه وإثرائه. وصار يعقد الصفقات المشبوهة التي تنتهي بإملاءات وبرامج مسقطة وتوجيهات لا تخدم مصلحة القطاع ولا مصلحة تونس. ولذلك، طال الفساد هذا القطاع السّامي. وتحكّم النظام في نسب النجاح وفي قنوات التوجيه استجابة لإملاءات خارجيّة مقابل قروض وهبات يثري منها النظام وتثقل كاهل الشعب وتقلّل من مداخيله وتضاعف ديونه وترهنه دهورا. فضعف مردود قطاع التربية والتعليم. وقلّت الجدوى التي كان يضمنها لمختلف القطاعات. وتضاءل الطلب الخارجيّ على طلبته وخرّجيه. فصرنا نعاين خرّيجين جامعيّين لا يتقنون ميادين اختصاصاتهم. فيُحتاج إلى إنفاق كبير من أجل رسكلتهم وتأهيلهم وسدّ الثغرات التي في تكوينهم. ودخلنا في حلقة مفرغة من التعليم والتكوين تهدر الطاقات وتبدّد الثروات من أجل إنتاج ضعيف.
أنا أرى أنّ قطاع التربية والتعليم هو الأولويّة القصوى في أيّ بناء جديد. إنّ تونس دولة تفتقر إلى الثروات الطبيعيّة. ولكنّها تمتاز بثروتين لا تنضبان هما الفلاحة والتعليم. ولذلك لابدّ من إعادة النظر في المنظومة التربويّة وفي إعادة رسم الأهداف الكبرى لها وفي رسم الخطط لتحقيقها.
كما لابدّ، في نظري، من مراجعة مسألتي تعريب العلوم وترتيب اللغات الحيّة بعد العربيّة. فلابدّ من التساؤل عن جدوى تدريس العلوم بغير العربيّة وعن فاعليّة اعتبار الفرنسيّة لغة حيّ أولى بعد اللغة العربيّة الأمّ(4). هذه قضايا كبرى لابدّ من مناقشتها على نطاق وطنيّ واسع بتأنّ وبآليّات شفّافة وديمقراطيّة تضمن مشاركة الجميع في الشأن التربويّ بما في ذلك آليّة الاستفتاء.
كما تجدر الإشارة إلى أنّ المسألة التربويّة لا يستقيم النظر فيها دون الاهتمام بالمسألة القطاعيّة أعني التعجيل بسنّ القوانين الأساسيّة لقطاعات المربّين. كما لابدّ من مراجعة أجور المدرّسين ومطابقتها مع أجور غيرهم من موظّفي الدواوين والبنوك حتى تحفظ كرامتهم ولا يندفعون خلف الدروس الخصوصيّة التي أراها المدخل الأوّل للفساد ولتخريب المنظومة التربويّة. إنّ المدرسة هي الحقل المنتج للقيم المعلاة في المجتمع. وهو دور فقدته ولابدّ أن تستعيده. ولا شفاء لمنظومة القيم دون شفاء المنظومة التربويّة.
الأولويّة الكبرى الثانية في رأيي هي العدالة. ولا يمكن أن تسود بين الناس بقضاء تابع ولا بتداخل بين السّلطات ولا بمنظومة قانونيّة مهترئة ولا بمؤسّسات رقابة قضائيّة تسلّطيّة. لابدّ أن يكون القضاء شأنا خاصّا بالقضاة وسلطة منفصلة إداريّا عن بقيّة السّلطات. فلا وصيّ على القضاء. ولا سلطة لأحد على القاضي.
أمّا المسائل الاقتصاديّة فهي مرتبطة بشكل عضويّ بالتعليم وبالقانون. وأمّا هويّة المجتمع وحماية الدّين فهذه فرقعات سياسيّة تُكشف وتُسحب وتعمل تحت الطلب. وليست أولويّات. ولم تكن من مطالب الثورة أبدا. ولا آفاق سعيدة للثورة التونسيّة إذا لم يتمّ تناول المنظومة التربويّة والمنظومة القانونيّة بالمراجعة والنقاش والحوار الوطنيّ المفتوح والمسؤول(5).
الهوامش:
1. أنا أعيش في تونس العاصمة حيث عملي وإقامتي. وقد عشت الثورة التونسيّة، هنا على الأرض، لحظة بلحظة منذ اندلاعها في سيدي بوزيد يوم 17 ديسمبر 2010 حين أحرق الشاب محمد البوعزيزي نفسه احتجاجا على الإهانة، إلى زحفها إلى بقيّة مدن تونس وحواضرها. وكنّا على يقين بأنّ الحاكم لن يسقط ما لم تصل الثورة إلى العاصمة. وقد فعل النظام النوفمبريّ القائم في تونس كلّ ما في وسعه أمنيّا وميليشويّا وإعلاميّا لمنع حصول ذلك. ولكنّه فشل. فما إن اندلعت الشرارة في تونس حتى سقط النظام في ظرف 36 ساعة.
2. انظر مقالي: السّاحتان السياسيّة والنقابيّة التونسيّتان والتمهيد للثورة، مجلّة الأوان الإلكترونيّة، الأحد 15 كانون الثاني/ يناير 2012. الرّابط:
http://www.alawan.org/%D8%A7%D9%84%…
3. ولعلّ هذا الوهم هو ما جعل الرئيس التونسيّ المخلوع الهارب يستخفّ بالحراك الشعبيّ في تونس إبّان الثورة. فقد كشف مدير أمنه أنّه كان مع عائلته في زيارة تبضّع واستجمام في دبي من 23 إلى 30 ديسمبر 2010.
4. أثار الباحث حاتم بن رجيبة هذه القضيّة. انظر مقاله المنشور في موقع الشعب الكريم. الرّابط:
http://lebonpeuple.com/index.php/fi…
5. ولنا في ذلك اقتراحات: انظر مجموعة الموادّ المنشورة في موقع الشعب الكريم. وقد شاركت مجموعة من الأصدقاء في إعدادها. الرّوابط:
http://lebonpeuple.com/index.php/fi…
http://lebonpeuple.com/index.php/fi…
http://lebonpeuple.com/index.php/fi…
موقع الآوان