مراجعات كتب

المكتبة ككونِ موازِ: حفظ الذاكرة وموهبة الألسن

 

مراجعة: د. ريتا فرج

[ الكتاب: المكتبة في الليل

[ الكاتب: ألبرتو مانغويل

[ ترجمة: أحمد أحمد

[ الناشر: دار الساقي، بيروت، الطبعة الأولى، 2015

يعتبر المؤلِّف الأرجنتيني ألبرتو مانغويل مرجعاً موسوعياً في توثيق ودراسة تاريخ المكتبات في العالم. تميز أسلوبه كراوٍ بسيولة الأفكار وتدفقها. يثير فينا الدهشة والانبهار في مؤلفاته التي حظيت بشهرة عالمية، ونقلت إلى لغات عدة من بينها العربية. تشكل ثلاثيتة «تاريخ القراءة«، «يوميات القراءة: تأملات قارئ شغوف في عام من القراءة«، «المكتبة في الليل« مراجع تاريخية وأدبية ريادية لكل القراء الشغوفين بالكتب قراءةً وتجميعاً وحفظاً للذاكرات والثقافات والعلوم كافة.

في «المكتبة في الليل« يأخذنا مانغويل إلى عوالم آسرة تكشف عن تجليات المكتبة كميثولوجيا وترتيب ومكان وسلطة وظل ومصادفة ونسيان وبقاء وخيال وهوية ووطن. لا يتبع الكتاب منهجاً تاريخياً صارماً برغم ما يتضمنه من تأريخ لكبرى المكتبات العالمية، إذ تمتزج فيه التجربة الذاتية المتّقدة والتجارب الأخرى، ما أعطاه حيزاً مختلفاً يتسق فيه حب الكتب والقراءة بوصفه فعلاً تنويرياً. قال الناقد الكندي الراحل نورثروب فراي (1912- 1991 ) في واحدة من كراساته العديدة: « حقاً، إن للمكتبة الكبيرة موهبة الألسن وإمكانية هائلة الاتساع من التخاطر«. والحال، تمارس الكتب علينا رقابة ودية ومحببة متعددة الأوجه، فإلى جانب الكشوف العلمية والأدبية المفتوحة على الأكوان الموازية والألسن المختلفة، تجبر القارئ النهم على ضرب موعد يومي معها وتدفعه إلى البحث الدؤوب عن الإصدارات الجديدة سواء تلك التي تندرج في أولوياته أو لإغناء مكتبته بشتى أنواع المعارف.

يحيلنا الكاتب على تاريخ المكتبات التي انتهت بفعل الحريق أو التدمير، من بينها مكتبة الإسكندرية التي بناها ملوك البطالمة في نهاية القرن الثالث قبل الميلاد، لكي يُتاح اتّباع تعاليم أرسطو على نحو أفضل. كرس بناء هذه المكتبة التنافس، إذ حاول ملوك بيرغامون الأتاليون، شمال غرب آسيا الصغرى، أن ينافسوا الإسكندرية فبنوا مكتبتهم الخاصة، لكنها لم تصل إلى عظمة مكتبة الإسكندرية. ولكي يمنعوا منافسيهم من تزوير مخطوطاتهم حظر البطالمة تصدير ورق البردى، الأمر الذي ردّ عليه مكتبيو بيرغامون بابتكارهم مادة كتابية حملت اسم المدينة: بيرغامينون أو البرشمان. دُمرت المكتبة بسبب الحريق وأعادت الحكومة المصرية عام 1988 بناءها حيث بلغ محيطها حوالى 160 متراً، مع مساحة رفوف تتسع لأكثر من ثمانية ملايين كتاب. إن احراق الكتب لا يرتبط بالحوادث المأسوية فحسب، شهد التاريخ البشري محو ذاكرة الشعوب، ففي المكسيك وأميركا الوسطى، تمّ تدمير المكتبات ودور التوثيق لشعوب ما قبل كولومبوس بشكل منهجي على يد الأوروبيين، لسببين: أن يجردوا تلك الشعوب من الهوية، وليحوّلوا أبناءهم إلى الدين المسيحي.

يضعنا مانغويل في تجربته الذاتية لتنظيم كتبه، ناقلاً تجارب أصدقائه في ضروب التبويب. وببراعة ينقلنا إلى التصنيفات المعتمدة في المكتبات التاريخية المندثرة في الصين وبابل واليونان. استعمل التصنيف الأبجدي للكتب كما يشير الكاتب- للمرة الأولى منذ أكثر من اثنين وعشرين قرناً مضت، من قبل كاليماخوس، أحد أبرز مكتبي الإسكندرية، وهو شاعر مشهود له من قبل بروبرتيوس وأوفيد، ومؤلف لأكثر من ثمانمائة كتاب. ودخل النظام الأبجدي المكتبات الإسلامية من طريق فهارس كاليماخوس. وكان أول عمل مشابه أُنجز في العالم العربي، كمحاكاة له هو كتاب «المؤلِّفين« لبائع الكتب البغدادي أبو طاهر طيفور (أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر الماروزي الملقب بابن طيفور) المتوفى سنة 893 م. وعلى أهمية تصنيف ديوي العشري كنظام حديث يسجل مانغويل بعض النقد، ملاحظاً أنه برغم تعرضه «للتعديل والتبسيط والتكييف مراراً وتكراراً، لكن جوهرياً، يبقى مرتكز ديوي الرئيس من دون تغيير: كلّ ما يمكن تصوره يمكن أن يؤول إلى رقم، لذلك فإن لا تناهي الكون يمكن احتواؤه ضمن تركيبة لامتناهية من عشرة أرقام«.

«المكتبات على غرار الطبيعة، تكره الفراغ، ومشكلة المكان متأصلة في لبّ طبيعة أية مجموعة من الكتب«. تواجه هذه المقاربة المكتبيين والهواة والباحثين والعلماء؛ الفضاء الذي يمكن أن توفره المكتبة لما هو وافد يضاعف مشاكل ايجاد الأمكنة، بعض المكتبات العامة أتلفت وأحرقت المئات من الكتب لأسباب ضيق المساحة أو بمقتضى طول الفترة الزمنية التي لم تُطلب خلالها. لجأت مكتبات أخرى إلى نظام الحفظ الإلكتروني وكذلك التصوير الضوئي. هنا يسجل مانغويل تحفظه على هذه التقنية الجديدة، فهو من مناصري الكتب الورقية، ولا يحبذ الكتب الرقمية كونها بلا تاريخ أي بلا هوية، ولا تعني ولادة الحاجة إلى تكنولوجيا جديدة موت الأقدم منها.

تمارس المكتبة سطوة مزدوجة: معرفية ورقابية. يحظر عدد كبير من البلدان لأسباب مختلفة بعض الكتب؛ يأتي الحظر غالباً- في إطار توجس الأنظمة السياسية من الأفكار الناقدة للدين والسلطة. في عام 2003 صرح الكاردينال جوزيف راتزينغر (البابا بندكت السادس عشر) أن كتب هاري بوتر «تحرف جوهر المسيحية عميقاً قبل أن يقيّض له النمو كما يجب«. وعليه وكما يشير مانغويل فإن أي مكتبة في صميم وجودها، تستحضر محظورها أو نظيرها المنسي: مكتبة لا مرئية لكنها مهيبة، مؤلفة من الكتب التي اعتُبرت غير مؤهلة للبقاء«. اشتدت سلطة حظر في العالم العربي في السنوات الأخيرة، حيث مُنع دخول العديد من الكتب إلى بعض البلدان لا سيما مؤلفات نقد الفكر الديني أو تلك التي تنتقد الأنظمة السياسية التي تهاب الأفكار فتعمل على اسكاتها.

يستفيض مانغويل في تفسير البعد الوجداني للمكتبة. يحاول فهم العلاقة الروحية والفكرية والتخاطرية بين القارئ وكتبه. ليست الكتب فعلاً معرفياً، نتناقل من خلالها معرفة العالم ومعرفة ذواتنا وحسب، إنما هي خزان للهويات والأفكار والذاكرات التي تحفظ بقاءنا ووجدنا كجماعات وأفراد.

ينضح الكتاب بالهم المتجذر في حب الكتب. وقد وصفته جريدة ( The Globe and Mail) الكندية قائلة: «في الكتاب الجيد، تبرز المقاطع لأنها كُتبت بشكل جيد. في الكتاب العظيم، لا شيء يبرز لأن ذلك مستحيل. المكتبة في الليل هو أحد تلك الكتب العظيمة«.

المستقبل

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى