مراجعات كتب

“الجريمة والعقاب”.. كيف نظر دوستويفسكي للاغتراب والعنف والهوية؟/ حمزة المجيدي

 

 

على الرغم من أن قرابة القرن ونصف من الزمن بتغيراتها المطردة وتحولاتها المتسارعة  تفصلنا عن الإنتاج الأدبي لدوستويفسكي، إلا أن هذه الأعمال مرت عبر كل هذه التحولات من دون أن تُـمنى بخسارة واحدة، أو تفقد شيئاً من أهميتها، بل وعلى العكس من ذلك فقد خرجت منها أكثر حداثة وجِدّة وراهنية مايجعلها تبدو وكأنها نبوءات تحقق ذاتها عبر الزمن.

شيئاً فشيئاً تكتسب روايات دوستويفسكي أهمية متزايدة مع مرور الزمن، فقضايا العلمنة والتغريب والأوْربة ونتائجها المدمرة على الذات والهوية التي ناقشها في رواياته، لا تزال تتكشف تبعاتها للعيان مع تزايد عمليات العولمة وتحويل العالم إلى صورة عن المجتمعات الأوروبية الحديثة، وكأن دوستويفسكي كان يتنبأ بما سيحدث خلال العقود القادمة في ظل الغزو الحداثي للعالم!

تعد “الجريمة والعقاب” واحدة من أهم أعمال دوستويفسكي التي ناقش فيها العديد من قضايا العصر الحديث الملحة، وإذا كان دوستويفسكي قد قدم مقاربة للجريمة والعقاب من منظور سيكولوجي عبر شخصية البطل راسكولينكوف، فإن هذا البعد السيكولوجي لم يكن بمعزل عن التغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي شهدها المجتمع الروسي بُعيد الغزو النابليوني لها، والتوترات التي تنشأ بين الفرد والمجتمع نتيجة هذه التغيرات المتسارعة!

إن الموضوع الرئيسي الذي يعالجه دوستويفسكي في روايته هذه هو الاغتراب والتفكك الاجتماعي والنفسي الناتج عن التحولات الثقافية والاقتصادية السريعة، وقد استطاع دوستويفسكي ببصيرة نافذة أن يتنبأ بردود الأفعال التي ستنتج عن مثل هذه التحولات بالاتجاه إلى سياسات الهوية والعنف[1]، هذا يذكرنا بحالة الكثير من الشباب المنسيين الذين انضموا الى التيارات الراديكالية كداعش، ذلك حين فقدوا اليقين ولم يستطيعوا التكيف مع تغيرات الزمن الحديث!

راسكولينكوف.. الانفصام الذي تولده الحداثة

من المناسب أولاً الإشارة إلى أن اسم راسكولينكوف (وهو اسم بطل الرواية) يعني في اللغة الروسية المنفصم[1]، وهذا بالضبط ما أراد دوستويفسكي إيصاله عبر هذه الشخصية المتشظية، التي كانت ضحية التمدن والتحديث ومايرافقه من تذرير للمجتمع وتفكيك للأواصر الجمعية بين أفراده.

راسكولينكوف طالب جامعي يدرس في كلية الحقوق في العاصمة الروسية -آنذاك- بطرسبرج، بينما يعيش أهله في إحدى القرى الروسية حيث تعمل والدته وشقيقته بهدف ضمان احتياجاته، ولكن وبسبب ظروف اقتصادية -لا يخبرنا عنها دوستويفسكي شيئاً إلا أننا يمكن أن نخمن أنها نتيجة لسياسات اللبرلة واقتصاد السوق التي أفقرت الطبقة الوسطى- يتوقف الأهل عن إرسال المصاريف إلى ابنهم، ما سيؤدي إلى توقفه عن الدراسة الجامعية.

تبدأ الرواية بعرض الحالة النفسية التي كان عليها راسكولينكوف، شخص يعاني “منذ بعض الوقت حالة من التوتر والعصبية توشك أن تكون مرض الكآبة. لقد بلغت حياته من الاعتزال ومن فرط الانطواء على النفس أنه بات يخشى لقاء أي إنسان.. كان يعيش في فقر مدقع، وبؤس شديد، ولكن العوز نفسه أصبح في الآونة الأخيرة لا يثقل عليه”.[2]

لعدة صفحات متتالية، يكمل دوستويفسكي سرد الحالة النفسية والذهنية لبطل الرواية راسكولينكوف، حالة الاهتياج والهذيان والشرود الذهني، التي تتفاقم بفعل الأوضاع التي كانت عليها مدينة بطرسبرج وشعوره بالاغتراب عنها، يصور دوستويفسكي بطرسبرج بأنها كانت مدينة مزدحمة وقذرة، يتمدد السكارى في شوارعها في وضح النهار، بينما تنتشر البغايا في شوراعها وبين أزقتها أملاً في الحصول المال. ترمز هذه الصورة التي يقدمها دوستويفسكي للمدينة إلى حالة المجتمع وكل مافيه من لامساواة وظلم ناجم عن السياسات الليبرالية، وهو ما سيكرس بالمجمل عزلة راسكولينكوف ونفوره من بيئته[3].

ونتيجة لهذا التشظي الذي آل إليه الشاب الجامعي، وعدم شعوره بالانتماء إلى الوسط الذي يعيش فيه، تتولد لديه الكثير من الأسئلة والهواجس والأفكار التي تتسم بالطابع الانشقاقي والعدائي للمجتمع، إلا أن فكرة باتت تستولي عليه مؤخراً بصورة ملحة، وتكاد تمنعه حتى عن الأكل والشرب والنوم، إنها فكرة قتل عجوز مرابية تقوم بإقراض الناس مبالغ نقدية بفوائد مقابل رهون يقدمونها لها!

الذات المجروحة وسياسات الهوية والعنف

لم يكن ثمة أي عداء شخصي بين راسكولينكوف والعجوز تلك، ولا كان لدى الشاب الجامعي أي دوافع مادية تذكر ليقدم على ارتكاب تلك الجريمة؛ وهو ما يطرح السؤال حول الأسباب التي دعت راسكولينكوف للتفكير بقتل تلك العجوز؟

في واقع الحال، فإن الدوافع كانت عبارة عن خليط من العوامل السيكولوجية المركبة، إلا أنها كانت تدور حول الرغبة في إثبات الذات واستعادة الكرامة المفقودة من خلال إراقة الدم، لقد كان راسكولينكوف يشعر أنه منبوذ ومقصي وغير معترف به بصورة كافية من قِبَل المجتمع الذي لم يعد يرى سوى الرجال العظماء، إنه ليس أكثر من مجرد قملة بالنسبة للمجتمع الذي لا يجد فيه موطئ قدم له، ولذا فإنه كان بحاجة إلى إثبات ذاته أمام نفسه وانتزاع الاعتراف من المجتمع، ولم يكن ثمة سبيل آخر سوى عبر فعل القتل[4]!

تنبت في ذهن راسكولينكوف فكرة مفادها أن الرجال العظماء عبر التاريخ لم يستطيعوا أن يحققوا ذواتهم إلا عبر تخطيهم “الحواجز” وقتلهم كل من كان يقف عثرة في طريقهم، إنهم يقعون فوق القواعد الأخلاقية التي تحكم الإنسان، “فالقادة المشرعون للبشرية الذين غيروا معالم التاريخ الإنساني من صولون وحتى نابليون ما كان لهم أن يحققوا ما حققوه إلا حين أزاحوا الأفراد العشرة أو المائة.. الذين وقفوا عثرة في طريقهم”[2] وهنا أخذ راسكولينكوف يسائل نفسه “هل أنا قملة أم رجل عظيم؟”

يتجه راسكولينكوف إلى شقة العجوز المرابية عازماً أمره على اختبار حدود قدراته، إلا أنه حين يصل إلى بيتها يتملكه الرعب فيصرف عن ذهنه تلك “الهواجس الشيطانية”، وقد استولى عليه إحساس “بالاشمئزاز الذي لا نهاية له والذي أخذ يجثم على صدره ويقبض على قلبه ويخنقه خنقاً”[2] لبشاعة ما كان يفكر فيه! لكنه حين يعود إلى بيته؛ يجد رسالة من والدته مفادها أن ثمة رجل أعمال كبير يدعى لوتشين (لوتشين تعني البركة بالروسية[1] (تقدم لخطبة شقيقته، وأنهما وافقتا على هذا العرض نظراً لأن “السيد كان في عجلة من أمره ولم يريدا تفويت الفرصة”. يجسد لوتشين التوحش الرأسمالي بأبشع صوره، حيث يستغل الأوضاع الاقتصادية المتردية التي تعاني منها العائلة فيتقدم بعرض زواج لا يعدو أن يكون مجرد مشروع تجاري يبتغي منه الكثير من المكاسب المادية، ذلك أن “الارتباط بفتاة فقيرة يعد خيارا جيداً كي لا تشعر بأي فضل لها عليه وكي تبقى مدينة له طول العمر!”[2]

إن هذه الإهانة التي تلقاها راسكولينكوف من عرض الزواج، وهذا الشعور بالإذلال الذي ستورثه تلك الرسالة في نفسه حيث يرى إلى أي مدى من الوضاعة قد آل به المطاف هو عائلته وكيف تغدو شقيقته مجرد سلعة تباع وتشترى في نظر الهوامير، ستكون القشة التي تقصم ظهره، وتسعر نار الكراهية والحقد في قلبه وتعمق شعوره بالاغتراب عن المجتمع، ما يدفعه نحو استعادة مشروعه الذي كان قد تخلى عنه لتوه؛ حيث سيقدم على قتل تلك العجوز المرابية بعدها مباشرة!

سيكولوجيا الجريمة والعقاب

ما إن يرتكب راسكولينكوف جريمة القتل تلك، حتى يدخل في نوبات من الذعر والهذيان والاضطراب التي تتملك نفسية القاتل، ” لقد أصبح أسير هواجسه وكوابيسه، حيث يتبين له أنه عاجز نفسياً عن احتمال جرمه، وأن ثمة ألما عظيماً يثقل كينونته”[4]. حينها يتيقن أنه ليس بالإنسان الأعلى الذي ظن أنه يمثله، فيتشظى أكثر في دوامة من الاحتقار والكراهية لذاته تارة؛ التي اتضح له الآن بجلاء كبير أنها ليست من طراز العظماء كنابليون؛ وبين مشاعر الندم والرغبة في الاعتراف والتخفف من وطأة الجريمة وثقلها تارة أخرى.

 

منذ اللحظة الأولى؛ لا تبارح أحداث الجريمة ومشهد المرأة العجوز وهي مضرجة بدمائها ذاكرة راسكولينكوف، وهو ماكان يعذبه عذاباً لا طاقة له به، فكان يردد على نفسه “أيكون هذا هو العقاب؟ نعم، نعم، إن هذا هو العقاب !”[2] .وهكذا يقدم دوستويفسكي رؤية للعقاب قائمة على العذاب النفسي الرهيب الذي يعاني منه مرتكب الجريمة والذي يدفع بصاحبه إلى حافة الجنون!

يصل راسكولينكوف إلى حالة من الهذيان تقارب الهلوسات، وهنا يصور لنا دوستويفسكي عالم راسكولينكوف الداخلي باقتدار بالغ، حيث يبلغ به الأمر أنه “كان كلما رأى أحداً إلا وظن بأنه يعرف حقيقته وجرمه”[2]، إنه شعور يضيّق الخناق على المجرم ويثقل كيانه ويهده، وهو ما سيدفعه إلى البحث عن الخلاص ممثلا ًبالاعتراف بالجريمة والخضوع للعقاب. لقد أصبح العقاب منذ الآن مطلباً! إنه “دواء هذا الهاجس المؤلم الذي يختلج بداخله. كأن معادل كل جريمة هو العقاب. إنه ليس فقط معادلها القانوني، بل الأهم من ذلك: إنه معادلها النفسي”[4].  لكن الخلاص بالنسبة لراسكولينكوف لن يتحقق بمجرد الاعتراف بجرمه وحسب، بل لا بد قبل ذلك من الخروج من حالة الاغتراب والعزلة التي فرضها على نفسه، وهو ما سيكون بالعودة إلى هويته القومية وعقيدته الدينية!

الخلاص: العودة إلى منابع الذات

أثناء اضطراباته وهذيانه، يتعرف راسكولينكوف بفتاة تدعى سونيا، تعد سونيا رمز للتجذر والأصالة الروسية، فعلى الرغم من كونها قد أُجبرت على ممارسة البغاء بدفع من زوجة أبيها وذلك لإعالة أشقائها، إلا أنها تتسامى فوق معاناتها بحيث لا تُزعزع الرذيلة من إيمانها وأصالتها مثقال ذرة [1]!

قبل ذهاب راسكولينكوف لتسليم نفسه، تقوم سونيا بإهدائه صليبها، وهو ما يمثل رمز الانعتاق والخلاص في المسيحية. (مواقع التواصل)

يشعر راسكولينكوف بعاطفة غريبة تجاه سونيا، حيث يرى فيها “نوعاً من الشفقة التي لا يمكن إشباعها”[2]، وهذا يقوده نحو اختبار أول احساس بالندم. هنا يندفع راسكولينكوف بالاعتراف لسونيا، والتي سترشده على طريق الخلاص عبر التمسك بالإنجيل طالبة منه تسليم نفسه والاعتراف بذنبه، فالخلاص لا يتحقق إلا من خلال الألم الذي يعد شرطاً نفسياً للتطهر من الجريمة، وهي فكرة نجد أن دوستويفسكي يقتبسها من اللاهوت المسيحي[4].

وقبل ذهابه لتسليم نفسه، تقوم سونيا بإهدائه صليبها، وهو ما يمثل رمز الانعتاق والخلاص في المسيحية. فكما هو معروف في اللاهوت المسيحي، فان الصليب يرمز الى تضحية المسيح بنفسه من أجل خطايا البشرية، وهو ذات ما ستفعله سونيا حيث ستضحي بنفسها حين تتبع راسكولينكوف إلى المنفى في سيبيريا من أجل إنقاذه وإعادة إيمانه بالحياة[3].

وكما قامت سونيا بمصالحة راسكولينكوف مع القيم المسيحية فإنها ستقوم بمصالحته مع هويته القومية، وذلك حين تطلب منه أن يذهب “إلى ميدان من الميادين ويسلم على الشعب، ويقبل الأرض لأنه أثم في حقها، ويقول بصوت عال يسمعه جميع الناس: إنني قاتل!”[2] وهو ما قام به بالفعل قبل تسليمه لنفسه، وهكذا سيكون التصالح مع الشعب والذات عامل خلاص آخر لراسكولينكوف من خطايا التغريب التي عصفت به[5].

تُظهر الرواية كيف أن الدين لا يعد شأناً شخصياً وإنما يعدّ -بالمقام الأول- مكوناً من مكونا الهوية الجماعية والفردية، فراسكولينكوف الذي يتشوش بفعل الحداثة لن يجد الخلاص إلا بالعودة لهويته الدينية، إضافة إلى أنها تظهر نزعة دوستويفسكي القومية ورفضه للقيم الليبرالية الأوروبية وعدائه الشديد لها، كما أن الرواية تعد مفتاحا ًلفهم النفسية الروسية المعتدة بذاتها، ومدخلاً لفهم علاقاتها المتوترة مع المعسكر الغربي حيث تسعى روسيا لاستعادة كرامتها المفقودة على إثر انهيار الاتحاد السوفياتي[1].

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى