الحداثة كمشكلة وكحلّ: النموذج السوري/ ماهر مسعود
الحداثة كمشكلة:
يقول هيغل: الدولة في الشرق تتميز بحرية مطلقة لفرد واحد وعبودية مطلقة لمن سواه. للوهلة الأولى يبدو كلام هيغل المجرد صحيحاً عند إسقاطه على الماضي البعيد والقريب لـ «شرقنا»، بقدر صحته عند إسقاطه على الحاضر، حيث ليس هناك فرق كبير بين الحرية المطلقة للخليفة والسلطان من بعده، أو «الرئيس/الملك» في دول «الاستقلال» المستحدثة منذ أقل من قرن، وبين العبودية المطلقة للرعايا السابقين و «المواطنين» المستحدثين.
لكن على عكس ما يقوله هيغل، وعند التدقيق التاريخي، سنجد أنه قبل دخول الحداثة إلينا على وقع مدافع نابليون، كانت التشكيلات الاجتماعية السياسية مؤسسة على هيئة قبائل وعشائر، ذات سلطة وحقوق مكتسبة وامتيازات موروثة، تحمي حقوق الأفراد وملكيتهم وحريتهم ضد سلطة الدولة السلطانية. ولم يكن الأفراد معزولين وضعفاء أمام سلطة الدولة كما هو حالهم اليوم مع الدول المحدثة. وما حصل مع توسع سلطة الدولة العربية بعد الاستقلال هو إزالة الغطاء عن نماذج الحماية التقليدية السابقة، من دون أن تشكل الدولة نموذجاً أرقى للحماية باسم القانون والحق والعدل، أو نموذجاً أفضل لصيانة حرية الأفراد وملكيتهم واختياراتهم السياسية، بل إنه مقابل انحسار سلطة الأفراد على حيواتهم الخاصة، وانحسار سلطة الجماعات والعشائر على الأفراد، تغولت سلطة الدولة في حياة الأفراد والجماعات عبر السيطرة على ركائز الدولة العامة كالتعليم والجيش والقضاء والاقتصاد، وجعلها أدوات بيد السلطة الحاكمة (أي تخصيصها)، وبذلك لم تكن تلك السلطة أكثر من سلطة عشائرية عامة أفرغت مفهوم الدولة من كل أبعاده الحداثية التي ارتبطت بقيامها، ولم يكن رئيس «الجمهورية» إلا سلطاناً مطلقاً بالمعنى الهيغلي، الذي يملك وحده الحرية أمام مجتمع العبيد.
مشكلتنا مع الحداثة، بتعبير ماركسي، أنها بقيت في شكل أساسي حداثة بنية تحتية، أما البنية الفوقية المتمثلة في السياسة والدين والثقافة فبقيت متخلفة ومقدسة وبعيدة من التحديث، تتآكلها الأيديولوجيات الجاهزة والخلاصية بالعموم، ولذلك أنتجنا دولاً معاصرة و «علمانية» في شكلها، وقروسطية في مضمونها السياسي، وهي أقرب لأن تكون إمارات إسلامية معاصرة، لكل منها «أمير المؤمنين» الخاص بها.
سورية كنموذج لم تكن مفرغة من التنظيمات السياسية التي تمثلها الأحزاب المتنوعة والمتعددة في الدولة المعاصرة فحسب، بل كانت مفرغة من مؤسسات المجتمع المدني التي تقوم أصلاً للحد من سلطة الدولة الحديثة وحماية الأفراد من تغول السلطة السياسية، ولذلك كانت الملاحظة الأبرز على طول خط الثورة السورية، ليس في غياب التنظيم السياسي عن قوى المعارضة فحسب، بل في غياب التنظيم المدني الذي لم يكن قد تأسس في أي عهد سابق، وذلك في الوقت الذي لم تكن سلطة العشيرة والقبيلة وحتى الطائفة متماسكة أو قابلة للتماسك. بل حتى ضمن أفراد البيت الواحد لم تنعدم الانقسامات بين مؤيد ومعارض، حيث بقي أفراد المجتمع السوري بالمجمل مجرد أفراد ذريين وعُزّل ومفتتين، من دون أن يوجد ظهير اجتماعي أو سياسي قادر على حمايتهم وتوحيدهم خارج حدود السلطة القائمة.
لذلك، عندما حاول المجتمع السوري التماسك رداً على القتل والعنف الموجه من الدولة، لم يجد ما يفعِّل تماسكه سوى الاتكاء على موروث إسلامي ما قبل حداثي، والنكوص نحو اللاوعي الجمعي بحثاً عما يجمع الثائرين ويشد من عزيمتهم، في غياب أي تنظيم مدني أو سياسي حديث قادر على لمّ الشمل الاجتماعي الممزق والمفتت منذ نشوء الدولة السلطانية العربية المحدثة.
الحداثة كحل:
لنكن واضحين. من الصحيح جداً أن لا حل في سورية إلا الحل السياسي، ولكن من الصحيح أكثر أن لا حل مع نظام الأسد إلا الحل العسكري، وفي كلا الحلّين، الغائبين بالتلازم عن طرح المجتمع الدولي لنكبتنا، لا بد من استعادة العمل والتفكير في التنظيم السياسي والمدني والعسكري على أسس حديثة، فإن كان عنف النظام في الداخل قد وقف حائلاً موضوعياً أمام إنشاء مثل تلك التنظيمات خارج حدود المناطقية والطائفية، وإن كانت القوى الإسلامية قد أكملت ما بدأه النظام عبر قتل وخطف وإقصاء القوى العسكرية المافوق طائفية، وخطف الناشطين المدنيين ومؤسسي العمل المدني ولجان التنسيق المحلية من أمثال رزان زيتونة ورفاقها، فمعظم ما يقف حائلاً أمام التنظيمات الحديثة في الخارج هو عوامل ذاتية ناتجة من الخمول والسلبية والانتظار، وفقدان الإيمان بأهمية وقيمة العمل الجماعي المنظم، فما زال الائتلاف كأهم تشكيل سياسي معارض يشكو من أمراض النظام المتمثلة في ذاتية السلطة وشكلية المشاركة، ما يجعله ضعيف الشخصية أمام الدول الممولة، تماماً مثل ضعف النظام أمام مموليه الإيرانيين والروس.
أما عسكرياً، فما زال آلاف الضباط المنشقين، لا سيما ضباط الأقليات، هائمين على وجوههم في مخيمات اللجوء في الدول المجاورة. كذلك على الصعيد المدني، تقوم المنظمات الدولية غير الحكومية بإفراغ العمل المدني من أي مهمة وطنية ذات فائدة للثورة، ما يحرمها التأثير في المجتمعات المدنية التي تعيش بها أو التغيير في الرأي العام العالمي المساند للثورة. فالعمل المدني الفاعل كالتظاهر والحشد والإضراب والعصيان وغيرها، لم يزد إلا بهتاناً وسوء تنظيم على رغم الأعداد الهائلة للسوريين في الخارج.
إن الثورة التي جاءت لجعل حرية الواحد لا أكثر من محصلة لحرية الكثيرين، والتي تعيش اليوم أقسى هزائمها الموقتة وهزائم أهدافها أمام الخذلان العالمي والتحولات الدولية والمحلية الخطيرة بنكوصها، تحتاج من أبنائها الى استعادة المبادرة الخلاقة، والعمل والتفكير على أسس حديثة ومبتكرة سياسياً وعسكرياً ومدنياً.
* كاتب سوري
الحياة