الحرب مخرج لتفكيك الأزمة السورية
غازي دحمان *
ثمة ما يؤشر إلى أن الأزمة السورية لن تبقى واقفة طويلاً على أعتاب محافل الديبلوماسية الدولية تستجدي حلاً لن يأتي. تلك مرحلة انتهت، أو أنها تلملم آخر بقاياها بعد التطورات الدراماتيكية ذات النمط المشبع بعوامل الخطورة وعناصر الانفجار، ومن الواضح أن الأزمة أخذت تبني حلولاً معينة وفق مسارب خاصة يجري تجهيزها وإعدادها بالتساوق مع المسار الديبلوماسي المعلن.
ليس ما سبق خلاصات إنشائية، ولا طروحات رغبوية، بل هي توصيف لملامح واقع إستراتيجي بدأ بالتكون وفرضته معطيات عدة أفرزتها الأزمة السورية، ذلك أن الأزمة ومنذ عام ونصف العام كرست على هامشها العديد من القضايا التي باتت بحاجة إلى حل جراحي، وإلا فإن البديل تشويه كامل للواقع الإستراتيجي الذي جرى بناؤه وتثبيته بتضحيات وجهود غزيرة صرفتها قوى دولية معينة.
ليست القضية سورية بموقعها الإستراتيجي ومكانتها الجيوسياسية، على رغم ثقل هذه الأوزان، يل القضية أصبحت في الفهم الإستراتيجي تتعلق بمحاولة تغيير الوقائع والظروف الإستراتيجية، بما يشبه نوعاً من السلوك التشبيحي تمارسه بعض القوى في السياسة الدولية، متكئة على قدرتها على إدامة عذابات الشعب السوري، وإمكانية ابتزاز العالم بذلك، ما جعل قراءتها للأزمة في مشهديتها الدولية، تقتصر على بعد واحد باعتبارها تهيئ فرصة إستراتيجية نادرة تتعلق بتغيير المراتب والمواضع الدولية، من دون أن يترافق ذلك مع تغييرات مهمة في واقع هذه البلدان وظروفها، رغم كل ما يحكى عن مؤشرات الصعود وواقع القوة التنافسية لديها، وهي حالة تشبه تماماً الوضع الدولي قبل الحرب العالمية الأولى، حينما سعت ألمانيا وإيطاليا إلى كسر قواعد التوازن الدولي مستندة في ذلك على قدرتها على إيذاء شعوب بعينها، مبتعدة في ذلك عما تتيحه القدرات التساومية والتفاوضية على تحريك الواقع الدولي.
أمام هذا الواقع الذي انكفأ على عدم قدرة الأطراف على درء التهديدات التي تواجه مواقعها وظروفها، وأمام عدم قدرة أطراف أخرى على تحقيق اختراقات مهمة في الواقع الدولي، فثمة ساحة أخرى من شأنها تغيير هذا الواقع وإعادة رسم خطوطه الرئيسية، أو محاولة للتجريب للحصول على مواقع معينة، وفي هذه الحالة تصبح الحرب بالوكالة هي الطريق الأفضل، ربما كوسيلة لجس نبض القوى المقابلة ومعرفة حدود ردات أفعالها. من هنا يمكن القول أن القضية باتت ليس التخمين بوقوع حرب، بل متى سيتم الإعلان عنها وما هي جبهاتها ونوعية الأسلحة المستخدمة فيها، وفي هذا المجال ثمة أكثر من سيناريو مرشح للتطبيق.
* السيناريو الأول: أن تتم المجابهة على الجبهة الأردنية، والواضح إنها الجبهة الأكثر استعداداً من الناحية اللوجستية، وتتميز عسكرياً بمزايا عديدة، من حيث انفتاحها على المقلب الخليجي حيث طرق الإمداد العسكري والمالي، كما أنه يسهل توفير الذرائع وبناؤها، وبخاصة إذا كان الهدف حماية كتلة سكانية في الجنوب السوري أو منع الاعتداء على مخيمات اللاجئين والفارين، والواقع أن التجهيزات اللوجستية لهذا الخيار بدأت منذ مدة، حيث جرت مناورات «الأسد المتأهب» وكان واضحاً أن طبيعتها كانت تحاكي هجوماً على مواقع معينة لا يوجد مثيل حالي لها سوى في الواقع السوري. وما يرجح مثل هكذا سيناريو عقيدة الجيش الأردني وطبيعة تكوينه العسكري، حيث يتم التركيز على قوات محترفة تتخذ شكل فرق مهمات خاصة.
* السيناريو الثاني: أن يتم الهجوم عبر تركيا، وثمة مؤشرات عديدة على استعدادات تركية أكبر من حالة استنفار موقتة أو طارئة، استعدادات بحجم حرب، وبخاصة في ظل اشتعال الحرب في مناطق حلب التي تشكل نطاقاً إستراتيجياً مهماً للأمن القومي التركي، وفي ظل الأنباء المتواترة عن سيطرة أطراف كردية على مناطق الشمال الشرقي والجزء الغربي من ريف حلب ما يشكل تهديداً إستراتيجياً صريحاً للأمن القومي التركي في المدى المنظور، غير أن ثمة عقبات كثيرة تعيق إمكانية حسم الخيارات التركية باتجاه الحرب، منها ما هو داخلي يتعلق بالتركيبة الداخلية للمجتمع التركي وحساسية التدخل في الوضع السوري، ومنها ما له علاقة بواقع العلاقات التركية الإقليمية والدولية، إن لجهة العلاقة مع طهران، أو لجهة موقع تركيا في حلف شمال الأطلسي، وإمكان تفسير هذا الأمر وكأنه تدخل من هذا الحلف.
* السيناريو الثالث: أن تشتعل الحرب عن طريق الجبهة الإسرائيلية، وكانت إسرائيل قد أعربت عن مخاوف من انتقال الأسلحة الكيماوية إلى «حزب الله» وهددت في هذا الإطار بأنها وفي حال رصدت نقل هذا السلاح للحزب فإنها مستعدة للقيام بعمل عسكري، غير أن لإسرائيل مشاكلها الخاصة، فهي لا ترغب في استنفاد جهودها في حرب ليست حربها، كما أن الوضع بالنسبة إلى الحالة السورية لا يزال في حالة ضبابية وهو ما أكدته جهات الرصد والتقدير الإسرائيلية في أكثر من مناسبة، إضافة لذلك من المتوقع أن تقف واشنطن بقوة في وجه أي استعداد إسرائيلي في هذا الاتجاه رغبة منها في عدم توسيع دائرة النزاع.
هذا عن الجبهات، أما في ما خص طبيعة القتال وتكتيكاته، يمكن الميل في هذا الاتجاه إلى نظرية الحرب المحدودة والخاطفة، التي لا تتطلب جهازاً عسكرياً ضخماً، وإن كانت تتطلب وجود أكثر من غرفة عمليات لإدارة المعركة، تكون الأساسية في عمان، وتردفها غرف من تل أبيب وأنقرة والبحر المتوسط، وتعتمد هذه العملية على ضربات نوعية وخاطفة وإنزالات في مناطق معينة، بحيث تنصب الأهداف على مراكز قوى النخبة ومواقع الأسلحة الحساسة، إضافة إلى مراكز الاتصال، بحيث يتم قطع إمكانيات التواصل بين القيادة السورية وبين وحداتها القتالية المنتشرة على مساحة كبيرة من البلد، وقد ثبتت في هذا المجال نجاعة التجربة البريطانية في ليبيا، حيث عمدت القوات البريطانية الخاصة إلى إتباع هذه التكتيكات، وكان لها الأثر الحاسم في إنهاء الحرب لصالح القوات المناوئة للقذافي.
لن تبقى الأزمة السورية على أعتاب الديبلوماسية. فشلت ديبلوماسية كوفي أنان لعدم إدراكها مكونات الأزمة السورية في جوهر الواقع الدولي، وفشلت قبلها ديبلوماسية الجامعة العربية لمبالغتها المنطقية وإغفالها واقع الصراع الدولي، وغداً سيأتي الرد من نفس نوعية التكتيك السوري – الروسي – الإيراني، رد ماكر على سياسة ماكرة دمرت البلاد والعباد وتدعي أنه «ما في شي بحمص».
* كاتب سوري
الحياة