الحروب الصغيرة والمصالح الكبيرة/ سعد الله مزرعاني
بسبب الصراعات والانقسامات والحروب القائمة في المنطقة، وخصوصاً سوريا، يزداد الحديث عن مخاطر تفكك عدد من البلدان التي تعاني من السلبيات المذكورة، ومخاطر أن تتأثر بذلك بلدان مجاورة تعاني من مشاكل مماثلة ولو بدرجات مختلفة.
يستوقف في هذا الصدد ما حذَّر منه الملك الأردني أخيراً. طبيعي أن تتضاعف هواجس الرجل ومخاوفه، بسبب حداثة عهد المملكة الأردنية، وبسبب ألغام قائمة في تركيبتها، وبسبب مخطط إسرائيلي، وجهه الأول منع الفلسطينيين من إقامة دولة لهم على أرض عام 1967 ووجهه الثاني دفع هؤلاء نحو وطن بديل في الأردن . الخطر لا يقتصر على الأردن. بلدان أخرى ليست بمنأى عن ذلك: العراق، سوريا، لبنان، اليمن، ليبيا، البحرين (دون أن ننسى السودان طبعاً)… لكن العاهل الأردني ليس وحده من حذَّر. سبقه إلى ذلك السفير الأميركي السابق في دمشق. وافقه الرأي، بعد أيام، رئيس إقليم كردستان مسعود البرازيلي. لم يتأخر الرئيس اليمني، بدوره، من التذمر من تدخلات تشجع التقسيميين في الجنوب.
سيكون من قبيل التعسف إحالة كل ذلك (وما قد يحصل لاحقاً بما في ذلك في الخليج) إلى قرار أميركي سابق بإثارة ما سمي في مستهل عهد جورج بوش الابن: “الفوضى الخلاقة” (إستراتيجية الأمن القومي الأميركي لعام 2002)، أو لقرار أميركي جديد بتحقيق أهداف الولايات المتحدة بوسائل جديدة بعيد التخلي الأميركي عن “الحروب الإستباقية” أو ذات الطابع الهجومي. لم تكن الولايات المتحدة في السابق، ولا هي اليوم، ذات قدرات مطلقة وحاسمة. هذا ما كشفته “إخفاقاتها” في السابق وترددها وعجزها في المرحلة الراهنة. ذلك لا يعني أن الولايات المتحدة خسرت موقعها الأول والأكثر تأثيراً في العالم. ولا يعني ذلك أبداً، أنها غير ذات قدرة أو مصلحة في إثارة صراعات وانقسامات لإضعاف خصومها ولجعل حلفائها يسعون دائماً لطلب حمايتها ودفع ثمن ذلك من استقلالهم وسيادتهم وثرواتهم…
الواقع أن ثمة طرفين يبالغان حالياً، في تضخيم القدرات الأميركية: بعض أقرب حلفاء واشنطن وأكثرهم اعتماداً عليها، وبعض “أشرس أعداء” السياسة الأميركية وأكثرهم تعارضاً مع بعض سياساتها “السياسية” دون الاقتصادية. الطرف الأول يطالب واشنطن بالعودة إلى سياسة التدخل العسكري لتنفيذ بعض أجندته الخاصة. والطرف الثاني ينسب لها ما يواجهه من صعوبات وأزمات حتى لو كان هو نفسه مسؤولاً عن بعضها أو عن أهمها!
يستتبع ذلك، من هنا أو هناك، مبالغات وتقديرات غير صحيحة. يشكل الموقف من “الربيع العربي” أحد أبرز الحقول التي تتضارب بشأنها الروايات والتقويمات: اضطراب في المعايير يبلغ حد الإزدواجية والسوريالية والعبثية!!
لابد لأي تقويم موضوعي من أن يلحظ بأن الصراعات والانقسامات والحروب الداخلية أو البينية في المنطقة (إذا استثنينا العدوان على الشعب الفلسطيني) إنما هي ثمرة تخلف سياسي واقتصادي، كما هي ثمرة فئوية وتبعية، جزئية أو كاملة، قديمة أو جديدة… بسبب ذلك، خصوصاً، تفتقر الدول “النامية” إلى مسارات وآليات تقدم داخلي، وإلى منظومات تعاون وتنسيق أمنية وسياسية واقتصادية. تتجدد الأزمات بسبب غياب خطط تنمية وأنظمة مشاركة ومساواة.كذلك بسبب استشراء الفئوية والديكتاتورية وتعمق التبعية والاعتماد على دول المتروبول القديمة أو الجديدة.
الثنائية القطبية الأميركية (الأطلسية) السوفياتية التي استمرت نصف قرن أخلت لجموح القطبية الواحدة خصوصاً مع حكم بوش الابن و”المحافظين الجدد” في العقد الماضي. تبلورت في ظل ذلك معادلات ارتاح إليها بعض الحكام بديلاً من واجبهم في توفير الحصانة الداخلية لبلدانهم والمنظومات الإقليمية لإستقرارهم. تتغير هذه المعادلة، نسبياً، الآن. الرئيس الأميركي باراك أوباما يؤكد ذلك في مواقفه وسلوكه وتبريراته. كرّر مراراً أن قدرات بلاده محدودة. أكد أن التدخل العسكري شديد الكلفة. لاحظ الأكاديمي البريطاني روجر أوين ظهور”توازن عالمي جديد قائم على الاعتراف المتبادل بالمصالح”. لاحظ بحق أيضاً، أن الإدارة الأميركية تحاول “ابتكار” طرق جديدة لممارسة تأثيرها ودورها.
للحماية الخارجية كلفة هائلة. للتبعية، بشكل عام، كلفة أكبر. الأحرى أن يجري استخلاص العبر وصياغة استنتاجات جديدة بشأن ضرورة إقامة منظومة أمن وعلاقات جديدة. إستعصاءالأزمة السورية وسواها من الأزمات يكشف العجز العربي الفاضح. الأزمة الفلسطينية، قبلها وبعدها، وصمة إدانة على جبين المتاجرين والمتواطئن والعاجزين.
يشكو البعض الآن من “ضعف” الإدارة الأميركية. الأمر أعمق من ذلك. إنها حقائق العالم وتوازناته الجديدة.
لا يمكن أن يواصل العرب فئوياتهم “الصغيرة” على حساب مصالحهم الكبيرة.
كاتب وسياسي لبناني
النهار