الحزب السياسي ضرورة كي لا تُختطف الثورة السورية
عمر كوش
في جلساتنا الشامية، كنا نجتمع، من وقت لآخر، مجموعة من المثقفين المعارضين السوريين، في مطعم أو حانة، أو في بيت صديقة أو صديق، وحافظنا على تلك الجلسات شبه الدورية، منذ بداية الألفية الأولى حتى اندلاع ثورة الحرية والكرامة، التي جعلتنا نكثف لقاءاتنا، خاصة خلال السنة الأولى من عمرها، لكنها جعلت تلك الجلسات، خصوصاً أكثر، وحذرة، ويسبقها ترتيب مسبق ومدروس.
جمعتنا الثقافة، ولم تفرقنا السياسة، فمعظمنا كان، إما سجيناً سياسياً أو ممنوعاً من السفر أو مشروع معتقل قادم. ولعل فترة ربيع دمشق وما تلاها، كانت فترة ذهبية لإغناء وإثراء نقاشاتنا حول أمور البلد وأحوالنا، وأحوال الناس، وسوى ذلك كثير.
كان العديد من الأفكار يطرح. بعضها يذهب في لحظته، وبعضها الآخر يعود للنقاش من جديد، وبخاصة موضوع تشكيل جسم سياسي جديد، يفترق عن باقي التشكيلات السياسية التقليدية. وبقي هاجس الحزب السياسي يتهاوى، ويتكسر على وقائع سنوات الخوف من التنكيل والاعتقال والملاحقة، ولم يمتلك حظوظاً في ظل نظام الاستبداد الأسدي.
وجاءت الثورة السورية كي تعيد طرح ضرورة التشكيل السياسي، الديموقراطي، الداعم للثورة وناسها، بخاصة مع نشوء التنسيقيات والتجمعات المدنية والسياسية، ومحاولات النظام تغذية وإثارة النزعات المذهبية والطائفية والمناطقية، وارتكاس ملحوظ نحو مختلف الانتماءات ما قبل المدنية. وبعد محاولات عديدة، خلال الأشهر الأولى من عمر الثورة، تشكل المجلس الوطني السوري، وتشكل قبله وبعده هيئات ومجالس ومنابر تشبهه، أو تناكده، وليس لها سبيل أو مبرر سوى التشبت بالمتقادم من الأفكار وأساليب العمل، وممارسة فقه النكاية. أما المجلس فكانت الآمال معلقة عليه، لكنه أثبت عجزه عن قيادة الثورة أو تمثيلها سياسياً، ثم جاء تشكيل الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، ليعيد استنساخ تركيبة المجلس في أمراضه، ويزيد عليها قليلاً.
لعل السبب في عجز المجلس الوطني السوري، لا يكمن – فقط – في أمراض الفردية وتضخم الذات وعدم القدرة على العمل المؤسسي. وهي كلها أمراض حملتها شخصياته من فترة الاستبداد الأسدي، بل من تركيبته، حيث قام المجلس على مبدأ التوافق، بوصفه المبدأ الأساس، وفي الوقت نفسه كان سبب العجز والفشل، لأن التوافق حصل ما بين شخصيات تنتمي إلى حزب سياسي، إسلامي تقليدي، هو حزب الإخوان المسلمون، وشخصيات أخرى تمثل بقايا تجمعات أو أحزاب سياسية، هلامية ومتهالكة، مثل قوى إعلان دمشق، المقسوم على نفسه وعلى غيره، وحزب الشعب الذي لم يبق منه سوى بعض الشخصيات التاريخية، وحزب العمال، الذي لم يبق منه سوى الاسم وبعض المناضلين القدامى، إلى جانب قوى كردية وآشورية صغيرة وشخصيات مستقلة، بعضها معروف وبعضها الآخر لا يعرفه سوى أصدقائه وأقاربه، ومعظمهم لا خبرة لديه، سوى في الحديث عن نفسه، وما قام به من بطولات خلال عهود الاستبداد، ولعل من المفارقات أن التمثيل الكردي في المجلس كان مع عبد الباسط سيدا، الذي لا يؤمن حتى بانتماء الكرد إلى سوريا، بل إلى إقليم كردستان الغربية.
وفي مجلس، كالذي تشكل في الثاني من تشرين الأول/ اوكتوبر 2011، كان لا بد أن تظهر عليه هيمنة مجموعة الأشخاص المنتمين إلى حزب سياسي، مثل الإخوان المسلمين. والشيء ذاته تكرر في الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، بل وحصل الأسوأ، خاصة بعد نيل الائتلاف اعترافاً دولياً، ولعل بعض السوريين لا يخطئون حين يتحدثون عن رضوخ أو على الأقل ممالأة معظم الشخصيات العلمانية والليبرالية في المجلس أو الائتلاف لما يريده ويمليه الإخوان المسلمون، من أمثال برهان غليون وجورج صبرا وعبد الباسط سيدا وسواهم، حتى أن بعضهم تحدث عن تأسلم برهان غليون وجورج صبرا، في مفارقة لا تخلو من المرارة والتندر.
كان الأمل معقوداً على أن يكون الائتلاف مختلفاً عن المجلس، في تركيبته وفي عمله، حين قامت الدعوة، التي نهضت عليها المبادرة الوطنية (مبادرة رياض سيف)، على أساس شخصي، حيث دُعيت شخصية واحدة من كل مكون سياسي، وممثل عن كل محافظة سوريا من الداخل، لكن الإخوان المسلمين بوصفهم تنظيماً شمولياً، يسعون إلى الهيمنة على الدوام، تمكنوا من التغلغل في الائتلاف بطرق شتى، وكي يفرضوا ما يرونه عليه، ووصل الأمر بهم إلى درجة أنهم أتوا بشخص عاش معظم سنين حياته في الولايات المتحدة الأميركية، وجعلوه ممثلاً عن الحراك الثوري في دير الزور. لكن بالمقابل، فإن الشخصيات العلمانية والليبرالية والإسلامية غير الإخوانية، لم تتمكن من إيجاد صيغة فيما بينها من التفاهم والتوافق، لمنع هيمنة التنظيم الإخواني، بل اثبت معظمهم أنهم فردانيون، ومتضخمو الذوات، وغير قادرين على العمل الحزبي والمؤسساتي، وكل ما يعنيهم هو تسجيل المواقف، والظهور والاستعراض على شاشات التلفزة، ولعل الأهم هو أن ما يبرعون به هو النق والنميمة والحديث عن الذات.
والناظر في تركيبة مختلف تشكيلات المعارضة، بما فيها الائتلاف والمجلس الوطني السوري وهيئة التنسيق الوطني والمنبر الديمقراطي والتحالف الديمقراطي السوري والمجلس الوطني الكردي وسواها، يجد أنها لم تنبثق من قلب الحراك الاحتجاجي الثوري، لذلك لم تتمكن من تمثيله فعلياً، ولو حاول ترداد مطالب الثوار. والمفارق في الأمر هو أن القوى التي رفضت التدخل الخارجي، خصوصاً العسكري منه، وجعلته لافتة لها، لم تنأ بنفسها يوماً عن التدخلات الدولية والإقليمية في شؤونها، وفشلت جميعها في تأمين الدعم اللازم والضروري للثورة.
وتذهب أغلب تفسيرات أسباب فشل تشكيلات المعارضة السياسية إلى التذرع بحالة العطالة السياسية، الموروثة من عقود انتفاء السياسة ومصادرتها في سوريا، والتي طبعت العمل السياسي المعارض بطابع من الهامشية، لكن الأمر يتعدى ذلك إلى اتباع بعض الشخصيات مسلكاً يشوّه الفعل السياسي، بوصفه ممارسة تهدف إلى تغيير الواقع، وليس موقفاً أخلاقياً أو مبدئياً فقط، الأمر الذي يفسر تعلق بعض المعارضين وتركيزهم على المواقف المبدئية فقط، مع غياب مقتضيات العمل السياسي المؤسسي. يضاف إلى ذلك غياب برامج تغيير واضح لدى القوى والأحزاب التقليدية، وتركيزها على الإرث الشخصي لبعض رموزها المتقادمين، الذين تحولوا إلى ما يشبه مستحاثات سياسية، واطمأنوا إلى تاريخهم الذاتي، بل وحوّلوا السياسة إلى استثمار شخصاني. والأهم هو لجوء بعض الشخصيات المعارضة إلى سياسة تسجيل المواقف والنقاط، وسوق الاتهامات، وهدر الجهود، وتسميم الأجواء، وعدم القدرة على العمل الجمعي، والتركيز على شخصنة الخلافات، بما يزيد من الصراع والتنابذ والفرقة.
ولعل هذه النواقص والعيوب تفترض ضرورة السعي إلى تشكيل جسم سياسي جديد، خارج هذه الشخصيات وبعيد عنها، يتمحور عمله المرحلي على دعم الثورة وناسها، ويكون قادراً على جمع القوى المدنية والديموقراطية، ويضرب مثلاً في خدمة أهداف الثورة، ولا يتغاضى عن نقد أخطائها، بل يسعى إلى تخليصها قدر المستطاع من منزلقات التعثر، وإلى تقويم مساراتها وإبعادها عن مندرجات التطرف والتعصب، التي باتت مؤثرة في بعض المواضع، خصوصاً وأن المجتمع السوري بحاجة إلى عودة السياسة المسلوبة منه، في هذه المرحلة الصعبة والحساسة من تاريخ سوريا، التي تشهد ازدياد خطر ارتداد المزيد من الناس إلى مختلف الولاءات ما قبل المدنية، من اثنية وعشائرية وطائفية ومذهبية، وتزايد خطر التطرف والتعصب.
وتأتي ضرورة تشكل الجسم السياسي المنشود كي يعمل على إعادة ثورة الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية الى أصحابها المدنيين، ولمنع الإسلاميين والمتشددين من اختطافها والسطوة عليها. ولا شك في أن الشباب السوري الذي ثار على أعتى نظام ديكتاتوري في الشرق الأوسط، في العصر الحديث، يمكنه إيجاد الإطار المناسب لفعله السياسي، والانخراط في حزب جديد، ينهض على المواطنة والتعددية والديموقراطية، ويسير في درب بناء دولة القانون والمؤسسات.
وتقدم تجارب تونس ومصر وليبيا دروساً مستفادة في هذا المجال، اذ أن ثورات هذه البلدان خُطِفت من طرف الإسلاميين، ومن طرف أصحاب البنى التقليدية وما قبل المدنية، نظراً لضعف مأسسة وتنسيق القوى المدنية الديموقراطية، ولعدم وجود أطر حزبية، تمنهج العمل، وتوحد الجهود.
والغريب في الأمر، هو أن مثقفين سوريين كثر يجادلون اليوم في اتجاه الوقوف بوجه أي عمل حزبي جديد، ويسوقون حججاً واهية، تتمركز في أن الوقت لا يزال مبكراً وأن شروط تشكيل الحزب غير مكتملة، ويجب الانتظار إلى ما بعد سقوط النظام، وبانتظار نضوج الفوارق “الطبقية” في المجتمع. وهم يعودون في ذلك إلى مرجعية، تجد صداها في شروط لينين لتشكيل الحزب الطليعي، ناسين أن الثورة السورية، هي ثورة القرن الحادي والعشرين، وليست من ثورات القرن المنصرم، وأن زمنها مختلف عن زمنهم، وناسها مختلفون عن الناس الذين يسكنون أذهانهم.