الحصار الدامي للمدن السورية
فواز قادري
فجأة يكتشف النظام السوري أن هناك من ينوي إعلان إمارة إسلامية في درعا، وكأنّ أجهزته الأمنية الكثيرة مشغولة بحصاد الفول على المريخ درءاً للمل، صفاقة لا يعرف النظام كيف يلملم أذيالها، أو إخراجها بشكل يدعو المرء للإبتسام بسخرية والدمع في عينيه.
مدينة درعا محاصرة منذ عشرة أيام: بلا ماء، ولا دواء، لا خبز ولا كهرباء، لا وسائل إتصال، ومجازرعلى جميع المستويات.
لا أحد يعرف حجم الجرائم التي تُرتكب، رغم الأصوات الكثيرة التي تستغيث: شاهد العيان الذي يستعين بهاتف من البلد المجاور،
يخبرنا عن القليل من التفاصيل: جثث مازالت في الشوارع، عشرات الجرحى والشهداء.
بعد أن رأى النظام الإحتجاجات تتكاثر يوما بعد يوم، لتأخذ طابعاً مختلفاً، كمّاً ونوعا، من حيث الشعارات، ومن حيث الإمتداد الجغرافي والعددي، رغم الدّم والمجازر وبسببها، تقدم خطوة أُخرى وأخيرة نحو الخيارالأمني. درعا الأكثر تأجّجاً لأنّها دفعت القسط الأكبر من الشهداء، تولّت رفع شعارات تجاوزت الحاجز المطلبي، كان لابدّ أن تكون في مقدمة المدن المحاصرة لإسكاتها تماما، مّما يتيح للنظام إخماد المظاهرات في المدن والبلدات الأُخرى، إن كان خوفا، أم من خلال محاصرتها أيضا، كما يحصل الآن في دوما، والمعظميّة وبانياس، والدور قادم على بقيّة المدن.
لو عاينّا أسباب هذه الخطوة، لوجدناها كثيرة ومتداخلة، حتّى لو تناسينا قليلاّ طبيعة النظام الذي أكدّها إصراره على الحل الأمني، والجرائم التي إرتكبها، المزيد من القتل والمزيد من الإعتقالات، واصلاحاته الشكليّة البطيئة المتأخرة أصلاً، عن حركة الشارع ومطالبه، كرفع حالة الطوارئ، وإلغاء محاكم أمن الدولة، وقانون قمعي للتظاهر.
فعلاً، شكلّت درعا خطراً على النظام منذ البداية، إصرارها على مطالبها لم يتوقف، منذ إعتقال أطفالها وتعذيبهم، مروراً بالمجزرة الأولى، ولكونها أصبحت لاحقاً رافعة للإنتفاظات في المدن الأُخرى، ليس لهذه الأسباب فقط، بل هناك سبب إضافي، قد يبدو للوهلة الاولى،
سبباً غير جوهري، ولكنّنا نراه من الأسباب التي دفعت بالنظام إلى إرتكاب مجازر ذكّرتنا بنظام القذافي الشقيق، لم يستطع النظام أن يحتمل استقالة عضوين من مجلس شعبه العتيد، هذه الإستقالة التي تفضح كذبه الذي روج له طوال الوقت، كونها جاءت إحتجاجا على جرائمه التي لم تعد تحتمل، حتى من قبل أعضاء هذا البرلمان الكرتوني، ومن جهة أخرى، قد تدفع آخرين إلى سلوك نفس هذه الطريقة الإحتجاجية، ( لم يجرؤ أحد طوال المرحلتين الأسديّة على فعلها ) وفعلاً حصل ما كان يخشاه النظام، فسرعان ما تتالت الإستقالات: إستقال عضوان من مجلس المحافظة في درعا، أحدهم قدّم استقالته من حزب البعث أيضاً، لتنتقل الحالة إلى بانياس التي قدم فيها ثلاثون عضواً استقالتهم من حزب البعث، ولحجم الكارثة التي تحصل في درعا، قدّم أكثر من مئتين من الأعضاء الدرعاويين استقالتهم من حزب البعث، والحبل على الجرار.
كلّ ما نعرف عن طبيعة البرلمان السوري الشكلي، وعن حزب البعث الذي تحكمه الأجهزة الأمنيّة، لا يتناقض مع أهميّة الإستقالات التي تمّت، لكون هذه الإستقالات جاءت من بيت النظام، فهي ردّ بيّن على كذبه وفبركاته، ومن جهة أُخرى، خوفه من وصولها إلى مؤسسّات وقطاعات
أُخرى في حال إرتكابه المزيد من الجرائم، كما هو متوقع، في أكثر من مكان.
كلّنا أمل أن تتسع التظاهرات، ويزداد غليان الشارع لوقف آلة الموت الهمجية على درعا التي تُحاصر وتُجزر، ولتتجنّب المدن الأخرى المصير نفسه، ولكي لا يستفرد بكل مدينة على حدا، خاصة وجرائم النظام أصبحت مفضوحة أمام سمع العالم وبصره، العالم الذي بدأ بالتحرك بما هو أكثر من إدانة خجولة.