الحكم لم يعد ممكناً
حازم صاغيّة
حتّى لو استطاعت السلطة السوريّة أن تُخمد الانتفاضة، وهو أمر مستبعد جدّاً، فإنّ قدرة الرئيس بشّار الأسد على أن يحكم أضحت عديمة الحظوظ.
فبعد الهتافات والشعارات التي حملتها التظاهرات، وبعد نزع الصور وكسر التماثيل، والحملات على الرئيس الحاليّ ووالده الراحل، صارت استعادة الماضي، بتراتُبيّاته وعلاقاته السلطويّة المعهودة، أشبه ببعث الموتى.
وحين تقدم السلطة على تفكيك تماثيل للرئيس الراحل، كي تجنّبها الوقوع في قبضة المتظاهرين، فهذا يعني، وبغضّ النظر عن النتائج «العسكريّة» والسياسيّة للمواجهة، أنّ النظام سقط رمزيّاً.
يقال هذا الكلام وفي البال أنّ الحكم السوريّ يندرج في خانة الأنظمة التي تعوّل على «الهيبة» وعلى خشية «الأبناء» من «الأب» الذي لا يُطال. لا بل تتحوّل هذه العلاقة إلى اللُحمة الأهمّ التي تربط المحكوم بالحاكم، بحيث تتسلّل إلى كلامه حتّى حين لا يكون مصدّقاً هو نفسه ما يأتيه لسانه. فالمحكوم، والحال هذه، لا يجرؤ على تناول الحاكم، وهو خوف يمتدّ فعله فيتعدّى ساعات النهار واليقظة إلى أوقات النوم بأحلامه وكوابيسه.
وتحوّل هذه العلاقة إلى اللُحمة الأهمّ، إن لم تكن اللُحمة الوحيدة، يعزّزه الافتقار إلى أيّ رابط آخر يربط المحكوم بالحاكم. فمن العبث، مثلاً، أن يقال إنّ الشعب السوريّ تشدّه إلى القائد الخيارات السياسيّة التي أتاحها له، أو النهضة الاقتصاديّة التي أنشأها، أو الثورة التعليميّة التي أحدثها، ناهيك عن الأفكار التي عمّمها بهدف إقناع المحكوم بأن يكون محكوماً. أكثر من هذا، يصار إلى استبعاد إمكانيّة التفكير في هذه العناصر أصلاً، بحيث تتبدّى كلّ إشارة إلى الحرّيات أو الاقتصاد أو التعليم أو الاقتناع كأنّها تذكير بافتقار النظام إليها، ومن ثمّ نقداً له، إنْ لم تكن هجاءً وإهانة وسخرية.
لهذا تولد في مثل هذه الأنظمة «عبادة الشخصيّة»، ليس فقط لأنّ «الشخص» المعبود يحبّ أن يُعبَد، بل أيضاً لأنّ النظام المغلق والعديم الإنجاز في حاجة ماسّة، من أجل أن يستمرّ، إلى هذا التصنيع الرمزيّ الذي يوحّد المتنافر والمتضادّ.
والرئيس حافظ الأسد لم يكن قليل البراعة في هذا التصنيع. هكذا جُعل «نصر تشرين التاريخيّ» أساساً صلباً لبناء «عبادة الشخصيّة» التي راحت تتغذّى على تطوّرات ما لبثت أن تلاحقت: من القضاء على «الإخوان المسلمين» في 1980 بوصفه بلوغاً لجنان الاستقرار، إلى النجاح في العودة إلى بيروت بعد اجتياح 1982 الإسرائيليّ كتعبير عن صمود وعن إصرار لا يلينان.
وبدوره حاول الرئيس بشّار الأسد الإفادة من عوامل مماثلة: فهو، وفقاً للصورة الرسميّة، ضمنَ الاستقرار إذ جنّب سوريّة الانفلات الأمنيّ الذي شهده العراق بعد إطاحة صدّام حسين في 2003. ثمّ إنّه، وبعد عزلته وخروج جيشه من لبنان في 2005، كسر العزلة واستعاد موقعاً مفتاحيّاً في سياسات المنطقة. فهل يُستكثَر أن يطوّبه الشعب السوريّ أباً فيما العالم كلّه يطلب يده وودّه؟
بطبيعة الحال، وبفعل اختلاف الشخصيّتين ومرور الزمن، اختلفت العبادة التي كانت تُبنى للرئيس الحاليّ عن تلك التي انعقدت لأبيه. هكذا دخلت في رسم الصورة الجديدة عناصر غير معهودة قبلاً في سوريّة، كالعائلة الرئاسيّة الحديثة (المودرن) وصلةٍ ما برجال الأعمال أو باستيراد أجهزة الكومبيوتر أو السفر إلى الخارج. بيد أنّ طبيعة العلاقة السلطويّة وأبويّتها لم تتغيّرا. وكان ممّا رسخ واستمرّ ذاك الميل إلى تنزيه الحاكم، لا خوفاً منه فحسب، بل شعوراً بأنّ زوال ذاك الخوف إنّما يؤول إلى زوال الوطن نفسه وهطول الجحيم من كلّ صوب.
وهذا كلّه تغيّر فكبا الأب، والأب غير مسموح له أن يكبو أمام أبنائه، وأن يراه الأبناء وهو يكبو. وغير مقبول تالياً أن ينفض الغبار عن ثيابه ويستأنف الأبوّة كما لو أنّ شيئاً لم يكن. فكيف متى كان الأبناء هم أنفسهم مَن دفع به إلى ذلك، فيما الكبوة استجرّت كبوات حتّى صارت تمرّغاً؟
الحياة