الحلم.. سيارة
لقمان ديركي
لم يكن الحصول على سيارة أمراً سهلاً في سوريا، بل إنه كان أمراً بالغ الصعوبة. لا يمكن لأحد أن يركب سيارة إلا أصحاب المال الكافي، لذا اخترع الحلبيون سيارة “اللاما” الصغيرة جداً ذات العجلات الثلاث، لكن الدولة سرعان ما أصدرت قراراً بمنعها، وعاد أصحاب الدخل المحدود إلى ما وراء الحدود. لا يمكنك أن تركب سيارة خاصة بك، السيارة غالية جداً، وضريبة الجمارك العالية على نمرتها هو سبب الغلاء بصراحة.
أذكر أن صديقي غسان قال لي، وكنّا في العاشرة من عمرنا: “نحن السوريون من الشعوب الغنية، انظر كيف نشتري السيارات بكثرة رغم غلائها الفاحش!”. وهززتُ برأسي موافقاً، لذلك كنا ندلل السيارات التي يمتلكها الجيران. كانت سيارة التاكسي المرسيدس (المدعبل) البيضاء التي يمتلكها أبو عبدو حمرة في حارتنا الأولى في حلب (المشهد) هي أكثر سيارة مدللة رأيتها في حياتي، وكان اسمها (غندورة) مكتوباً بخط جميل على زجاجها الخلفي. ما من صبي في الحارة لم يشارك في مسحها أو غسلها، وفي ساعات الشدة بدفشها. ومرة كنتُ في مركز المدينة أمشي متفرجاً على ملصقات الأفلام السينمائية لمحتُ غندورة تمشي في شارع بارون خبباً، دقَّ قلبي، وارتفع عدد نبضاته، ولم أتمالك نفسي فصرختُ: غندورة.. غندورة، وردّت غندورة بزمامير مرحة مرة ومرتين ثم طارت باتجاه الراكب المحظوظ. لم يسعفنا الحظ بالصعود إلى داخل غندورة وهي تمشي. جلسنا فيها وهي واقفة بينما كنا نغسلها. انتقلنا بعد عام من حي المشهد إلى حي صلاح الدين لنجاور سيارة فاليانت يمتلكها أبو حمدو وتعمل على الخطوط الدولية. كانت زرقاء اللون وواسعة، وكان قدور يستعيرها من والده فترة نومه ظهراً دون علمه طبعاً. وبجانبها أيضاً كانت سيارة المرسيدس (المدعبل) لصاحبها الأورفلي تلمع بفخر واعتزاز بلونها الأصفر قبل أن يصبح الأصفر لباس سيارات الأجرة الموحّد، وإلى اليمين كانت السيارة الرهيبة الخاصة، ليست بتاكسي، إنها البيجو الـ 504 ذات النمرة اللبنانية لصاحبها أبو محمد حنَّان.
كانت النمرة اللبنانية تنزل من هيبة السيارة قليلاً، فهي رخيصة مقارنة بالسيارة ذاتها بنمرة سورية. لكننا كنا نتناسى النمرة وننظر بإعجاب بين الفينة والأخرى للبيجو البيضاء. إلا أنّ قدور لم يتوقف عن التقليل من شأنها فيقول: “بسيارتنا الفاليانت نستطيع شراء خمس سيارات بيجو بنمرة لبنانية”. لكن البيجو ذات النمرة السورية شأن آخر. البيجو 504 سيارة المهمّين، الساهرين على أمن الوطن، فإذا كانت بنمرة خاصة فإن صاحبها ضابط مخابرات حتماً، أما إذا كانت نمرتها خضراء حكومية فإن صاحبها ضابط من ضباط الشرطة. كانت سيارة البيجو 504 ذات حظوة وهيبة في البلاد حتى لو كانت عمومية، ولا يفوقها في ذلك سوى المرسيدس (اللف)، فهي سيارة علية القوم وسادتهم. لكنني كنتُ أفضِّل المرسيدس (المجنح)، مرسيدس الستينات والسبعينات، والتي تعمل على الخطوط الدولية كسيارة أجرة على الأغلب قبل أن تصبح سيارة الدودج هي طاغية طرق السفر والكراجات.
ومرت الأيام وتعرفنا على النمرة الصفراء التي كان القصر الجمهوري يقدمها للمقربين، فيمضي المقرب إلى لبنان ليشتري سيارة مرسيدس شبح بقليل من المال ويضع عليها النمرة الصفراء علامة الحظوة. سيارات وسيارات كان السوريون يحلمون بركوبها، وكانت ضريبة الجمارك تمنع معظمهم من ذلك.
المدن