الحل في سورية يسير على سكّتين وبوتين يفاوض على المواعيد
راغدة درغام
دخلت المناقصة والمقايضة مرحلة حامية في الفترة الأخيرة عبر سكّتين متوازيتين: إحداهما ترتكز الى تفاهم دولي وإقليمي على عملية انتقالية منظمة في سورية يتنحى بموجبها الرئيس السوري بشار الأسد عن السلطة طوعاً، على نسق النموذج اليمني. والأخرى ذات شقين، اقتصادي قوامه تضييق الخناق اقتصادياً على النظام في دمشق عبر قرار لمجلس الأمن إذا كان ذلك ممكناً، وعسكري عبر اقامة تجمع لمجموعة دول أوروبية وغربية بمشاركة أميركية من نوع ما، تمكّن من شن عمليات جوية محدودة وفرض حظر جوي إذا أصبح ذلك ضرورياً. السكّتان تسيران معاً عبر القارات في اجتماعات ثنائية ومتعددة الأطراف على أعلى المستويات، والجديد فيهما هذا الأسبوع ان روسيا عبّرت علناً عن عدم تمسكها ببقاء الأسد في السلطة، وأن الولايات المتحدة قالت علناً إنها تدرس جميع الخيارات ولم تعد في حالة تردد.
الرئيس الأميركي باراك أوباما منغمس، بطبيعة الحال، بالانتخابات الرئاسية المقبلة في شهر تشرين الثاني (نوفمبر). والإدارة الأميركية أبلغت معظم المعنيين في المنطقة العربية والشرق الأوسط وأوروبا أنها تريد «فاصلاً» أو «نقطة توقف» Pause في الشق المعني بإجراءات على الأرض نحو الحل العسكري الى ما بعد هذا الموعد، لجهة اتخاذ الإجراء، وليس لجهة الإعداد لاتخاذ الإجراء.
لذلك، يقوم عدد من الدول العربية والأوروبية بالتحضيرات الضرورية لخيار عسكري في حال فشل الحل السياسي على يدي المبعوث الأممي-العربي كوفي أنان، أو على يدي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وفرنسا وبريطانيا ودول في أوروبا الشرقية هي ضمن هذه المجموعة التي تضم دولاً خليجية، أبرزها المملكة العربية السعودية وقطر، وكذلك تركيا.
الأردن ليس في صدارة الخيار العسكري، نظراً لهشاشة الوضع الاقتصادي والسياسي المترتب على تدفق اللاجئين السوريين اليه. لذلك، هو ليس في الطوق الأول من الإعدادات العسكرية عبر حدوده الى سورية. لبنان يقع خارج هذه الإعدادات، بسبب ظروفه الاستثنائية وانقساماته تجاه الشأن السوري. العراق يمر في مرحلة ملفتة، سيما لجهة طرح الثقة بحكومة نوري المالكي وما يترتب على اعادة رسم العلاقة العراقية–الإيرانية في ضوء التطورات الداخلية والإقليمية. والمطلوب من الحدود العراقية–السورية يدخل في خانة الضبط وليس في خانة انشاء ممرات آمنة أو مناطق حظر طيران. أما العمل الجدي في الإطار العسكري، فإنه عبر البوابة التركية.
تركيا من جهتها، غارقة في العمل على السكّتين، وعينها على اللاعبين الآخرين، بدءاً بالولايات المتحدة وروسيا، مروراً بالدول الخليجية الرئيسية، وكذلك الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وانتهاء بالمعارضة السورية، كما ان الحكومة التركية تأخذ في حسابها الرأي العام في تركيا ومدى استعداده للتدخل العسكري المباشر في سورية.
لذلك، فان تركيا طرف مباشر في العمل على السكّتين. والنقاش الأميركي–التركي قائم في عدة صيغ وسيناريوهات لكي تضمن أنقرة عدم حدوث تورط تركي انفرادي، ولضمان صيغة ما بمباركة أو بمشاركة حلف شمال الأطلسي (ناتو) الذي تنتمي اليه أنقرة.
من جهة أخرى، يقوم رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان، بالتفاوض مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على تفاصيل العملية الانتقالية السياسية في دمشق انطلاقاً من: متى يتنحى الأسد؟ وماذا سيحدث من الآن حتى تنحيه؟ ومن يضمن خروجاً آمناً له؟ ومَن يضمن صدقية هذا الخروج؟
بوتين يريد ان يكون عرّاب الحل السياسي، ولا أحد يمانع في ذلك، انما العبرة في التنفيذ، والشيطان في التفاصيل. روسيا تريد عملية انتقالية تحت سيطرتها في سورية يتم ضبطها مع لاعبين إقليميين من ناحية التفاصيل، فيما يتم التفاهم عليها من حيث العناوين الرئيسية عبر «الصفقة الكبرى» Grand barga مع الولايات المتحدة، فروسيا التي لا تثق بأميركا وتعتبر دول مجلس التعاون الخليجي طرفاً منحازاً ضد النظام في دمشق، تدرك أن إيران ليست في وضع يمكِّنها ان تكون جزءاً من العملية الانتقالية السياسية في سورية، لأنها تعتبر زوال النظام في دمشق ضربة شبه قاضية على ركيزة مهمة من إستراتيجيتها في منطقة الشرق الأوسط. ولكل هذه الأسباب، فإن النقاش جارٍ بين بوتين وأردوغان حول تفاصيل العملية الانتقالية. وأردوغان بدوره مخوّل من المملكة العربية السعودية وينسق مع رئيس الحكومة القطرية حمد بن جاسم في هذا الصدد.
ما يحمله أردوغان الى الطاولة من تفاصيل يشمل الآتي: تحديد موعد واضح لتنحي بشار الأسد من الآن حتى الخريف، تشكيل حكومة انتقالية فيما يتولى مجلس عسكري رعاية الأمن والعمل نحو الاستقرار، تحديد موعد لانتخابات رئاسية قبل حلول شهر حزيران (يونيو) 2013، كفالة وسيلة ذات صدقية لخروج الأسد.
بوتين يفاوض على المواعيد والتفاصيل، الأسد يقاوم، وهو ما زال يطرح عملية سياسية تقوم على اصلاح النظام (وليس على استبدال النظام)، وعلى حوار مع المعارضة بصفته الرئيس الباقي في السلطة، لذلك يريد مواعيد الانتخابات في عام 2014، طبقاً لمفهوم بات غيرَ مقبول حتى لروسيا.
الإدارة الأميركية من جهتها أبلغت الحكومة الروسية انها جاهزة للانخراط معها في ايجاد وسيلة سليمة للعملية الانتقالية شرط الإيضاح لدمشق أن زمن إصلاح النظام ولّى ولا مناص من عملية انتقالية جدية في سورية.
وراء الموقف الروسي الجديد القائم على «الحل اليمني» عدة أسباب، من بينها ان بوتين لا يستطيع ربط اسمه واسم بلاده بنظام متهم بارتكاب المجازر بصورة منهجية، مهما كانت موسكو راغبة في بقاء النظام. ثم ان تطور الأوضاع الميدانية في سورية وبدء العد العكسي للانتخابات الرئاسية الأميركية يضع روسيا في مقدمة صانعي الحلول بدلاً من بقائها في خانة معطليها.
قرر بوتين ان يكون في صدارة منع انهيار الدولة في سورية وبدأ استراتيجية قوامها استعداد الغرب ليتقبل مجدداً أولوية الاستقرار على أولوية الديموقراطية. وعليه، يصر بوتين في محادثاته مع أردوغان وغيره على ضرورة وضوح معالم الأطراف البديلة الآتية الى السلطة في دمشق. بوتين لن يقبل باستيلاء الإخوان المسلمين على السلطة، ان كان ذلك عبر عملية ديموقراطية أو انقلاب عسكري. وهو يجد دعماً في هذا الموقف من شطر كبير من السوريين، بمن في ذلك داخل المعارضة. وهذه النقطة ما زالت من المسائل الشائكة في المباحثات حول العملية الانتقالية في سورية.
روسيا تريد كثيراً في اطار «الصفقة الكبرى»، من ناحية مكانتها الميدانية في منطقة الشرق الأوسط ومكانتها السياسية ونفوذها في مجلس الأمن، كما من ناحية علاقاتها الثنائية مع الولايات المتحدة. بوتين يقدم الى أوباما اليوم خشبة خلاص في سورية، وهو يرى في هذه الخشبة خلاصاً له من التوغل في مستنقع ليس في صالحه. وهو يدرك ان أوباما لن يتمكن من التورط عسكرياً حالياً في سورية، لكنه أيضاً لن يتمكن من تجاهل المجازر سيما في المرحلة الانتخابية.
ما هو دور تركيا وإيران في العملية الانتقالية في سورية؟ وما هو موقع كل منهما في «الصفقة الكبرى»؟ وهل دور كوفي أنان ينحصر حالياً في شراء الوقت ريثما يتم التفاهم على «الصفقة الكبرى» بين الولايات المتحدة وروسيا والأطراف الإقليمية؟ هذه أسئلة رئيسية وبديهية والأجوبة عليها معقدة نظراً للتداخل والتناقض في الحسابات الدولية والإقليمية.
تركيا ستكون جزءاً من صنع العملية الانتقالية وجزءاً من الصفقة الكبرى. ايران قد تكون جزءاً من الصفقة الكبرى لكنها لن تكون جزءاً من العملية الانتقالية قريباً لأنها في غير مصلحتها.
القيادة التركية فقدت ثقتها بالقيادة الإيرانية وهي ترى ان لا مجال للاستثمار في صدق ايران أو الوثوق بها. لذلك، تلعب دوراً في نزع الثقة وضرب استقرار حكومة المالكي في العراق بهدف تقليص النفوذ الإيراني داخل العراق.
أما في لبنان، فتعي أنقرة ان استراتيجية النظام السوري تقوم على تصدير الأزمة السورية الى لبنان، وهي تعتقد ان دمشق تصدّر الإرهاب الى تركيا وتعمل على تعزيز حزب العمال الكردستاني. ويتردد ان قوات خاصة تقوم بتوفير المساعدة للبنان كي لا يصبح ساحة لحرف الانظار عن التطورات السورية. ويقول عالمون بالسياسة التركية، إن تركيا لن تقبل بتدهور أو تصعيد الوضع في لبنان بقرار من دمشق، وإن العنصر العسكري سيكون حاضراً جداً اذا تطورت الأمور في هذا الاتجاه.
الأردن أيضاً خائف من تصدير اللااستقرار اليه في استراتيجية تحويل الأنظار عن سورية، وهو يخشى ان يكون غائباً في بال اللاعبين الإقليميين والدوليين الذين أسرعوا الى ابلاغ رسائل واضحة حول تحويل لبنان ساحة بديلة للحرب السورية.
انما الآن، وفي هذه الفترة بالذات، يغلب حديث التفاهمات عبر صفقات دولية على كلام المواجهات العسكرية. ووفق المصادر، العمل جارٍ على صفقة قبل حلول رمضان أواخر الشهر المقبل، وإلا فإن موسم المواجهات الديبلوماسية والسياسية وربما الميدانية سيبدأ في مجلس الأمن مع تأجيل التنفيذ الى ما بعد الانتخابات الرئاسية الاميركية، ما لم تفرض المجازر موعداً أبكر.
هذا الأسبوع، أثناء انعقاد المنتدى الاقتصادي العالمي في إسطنبول، كان واضحاً ان المسألة السورية لوّنت لوناً آخر ما سمي بـ «الربيع العربي» عندما انطلقت الثورات والانتفاضات العربية. كان واضحاً ان إسطنبول التي تستضيف اليوم الجمعة اجتماعاً فائق الأهمية يحضره وزراء خارجية الولايات المتحدة وروسيا وأوروبا والعرب باتت مدينة البحث في سكتي التفاهم والمواجهة.
الحياة