الحوار مع الطغمة العسكرية،ما يأتي به وما يأخذ: عزيز تبسي
عزيزتبسي
لم تكن المسألة في يوم من الأيام،مسألة نفسية،ففكرة الحوار مع السلطة السياسية،وهي عبارة عن طغمة عسكرية بسمات فاشية محلية لا أكثر،في شروط محددة،من ضرورات العمل السياسي.كان الحوار هدفاً أولياً على برامج عمل المعارضة الديموقراطية،منذ بدايات القرن الجديد،الحوار بغاية الخروج من المأزق السياسي،وضرورات الإنتقال إلى فسحة ديموقراطية،وإنتاج نمطاً أعجفاً من مصالحة وطنية،تعيد إن أمكن نسغ الحياة إلى بقايا آثار الإحتطاب الفاشي الطويل.
لكن سلطة الطغمة العسكرية،بددت جهد أجيال من العمل الحزبي والنقابي،ولم تسعى لإيجاد أي مشترك معها،في عموم الظروف واللحظات السياسية التي عبرت على التاريخ الوطني ومساراته.إقتنعت بنمط من الغرور المعزز بالقوة الحربية-الأمنية الفائقة وبتفاهمات مستترة مع العدو الوطني،إن الحوار،يجب أن ينتهي مثلما يبدأ،بالخضوع لها وتفهم ظروفها وإمتيازاتها،ولا بأس من الإشادة بدورها التاريخي و”تضحياتها”،وروحها السمحة التي إستجابت لجلسة المسامرة الطويلة التي سميت على سبيل القصور اللغوي بالحوار.
ويمكن أن تترك فسحة لحلفائها ومن في مقامهم، بعد مهرجان وطني أو إحتفال بأعياد حب الشعب للقائد،أو القيادة الذائبة بالقائد،ليهمس في أذنها بنوع من الرجاء العاطفي،عن ضرورة تحسين النعل الذي يداس به الشعب أو يوضع في فمه عن غير قصد من رجالات القيادة الحكيمة الحربيين ،أو العناية بالسجون،كتحسين طعام السجناء وزيادة حصة التنفس،أو تخفيف حشوة الطلقات التي تمزق بها فصائل الإعدام المعارضين في البراري،،أو تعميق حفر القتلى المدفونين على عجل في البادية،حتى لاتصل إليهم الجوارح والضواري الجائعة لتستكمل نهش لحومهم،أو تقصير ثوب السلطة الطويل،كمحاولة لإظهار جمال ساقيها غير المرئي للعامة،وتوسيع حصص الدخول إلى أماكنها الخاصة المحتكرة في الوظائف الحكومية،كإجراء شكلي يحقق نمطاً من التكافؤ بين من مازالوا يسمون بإصرار، في مخافر الشرطة أثناء الإستجواب:مواطنين.
وظهرت السلطة في كل مراحلها،كالعصى التي تجرف بها المجاري الآسنة،حيث لم يبق بها أي مكان نظيف،إذاً،لا يمكن النجاة من الوساخة والتلوث،بعد لمسها أو حتى الإقتراب منها،حتى بتدخل شفاعة الصابون ودفقات المياه ورجائهما.
كان يراد بالحوار دخولاً في إمتحان”الإملاء”الخطي المفروض على تلاميذ المرحلة الإبتدائية،أن يكون المتحاور مستعداً له،بأوراق بيضاء وقلم رصاص،وتدرب طويل على تقديم ورقة مكتوبة بالخط الرقعي الجميل الواضح،وخالية من الأخطاء،لينال علامة جيدة،تعكس رضى المحاور المسلح.
حملت كلمة الحوار، عبر تاريخها المتداول منذ نصف قرن الكثير من المجازفة والخديعة في آن،وإكتشف الكثيرون من أنصارها بالتجربة المريرة،وأحياناً دون عناء،أنه لايفضي إلى أي نتائج سياسية جديدة،والتي من المفترض،أو يجب أن تكون من أوائل ثماره،ويزيد عليها أنه يبدد الكرامة ويهرقها كإندلاق كوب مياه على اليابسة،وشبه الكثيرون جلساته ونتائجه ب”خض المياه”لتبقى مياه ،وهو بالضرورة غير”خض الحليب”وترقب خلاصاته.في واحدة من المفارقات التي تعكس منطق الحوار الذي يراد الخوض به،بعد السيطرة المسبقة على نتائجه،إعتقال رجل دين في أوائل التسعينات من القرن الماضي،بغية الحوار معه،لتأسيس حزب إسلامي معتدل في مشيته السياسية،وترك الرجل في الزنزانة الإنفرادية لأسابيع ،عله يراجع نفسه،ولم يفرج عنه إلا بعد،إعلانه أنه لايريد العمل في السياسة والأحزاب،أو نقل معتقل سياسي من الإنفرادية إلى المزدوجة بغية تحسين شروط الحوار معه في قضايا الديموقراطية والوطنية،هذه ليست سريالية،إنها من صلب وقائع الحوارات،في السردية الديموقراطية للطغمة العسكريةوأعيانها.
الحوار كأي ممارسة سياسية يتأسس على علاقات قوة،وهي ماكانت تفتقده ،أو بالأحرى،نزعت من كل القوى السياسية الحزبية والنقابية في تلك المسيرة الطويلة لحكم الطغمة العسكرية.رغم ذلك إحتفظت تلك الجماعات لنفسها بنبرة أخلاقية عالية الصوت أحياناً،للتذكير من حين لآخر بالمشتركات الوطنية وسواها من الكلام الذي لا يأتي أكوله،والذي نسيه رجالات الطغمة وفقدوا التمييز بين طعومه، من نمط الصهيونية والإمبريالية والإستعمار،التي تحولت لفرط إبتذالها إلى مايشبه”مسقعة الباذنجان”.علاقات القوة هي وحدها الكفيلة،بدفع المختلفين إلى الحوار،الذي يطرح كمخرج عقلاني لأي أزمة سياسية،عله يساهم بتخفيض تكاليف المواجهة ويدفع لإستثمارها في التنمية والبناء الديموقراطي،والحوار بالطبع هو المخرج الإصلاحي لها،وإيقاف لسيرورتها المؤسسة على المواجهة المفتوحة،والتي لا يمكن التكهن بنتائجها،وفق مقولة أن كل إصلاح هو ثورة مؤجلة.
القوة وعلاقات القوى الإجتماعية،ومايمكن تسميته ميزان القوى بين الجماعات المتصارعة،هو ما ينبغي أن يفضي إلى تعديلات سياسية-حقوقية تأخذ بالحسبان المواقع الجديدة للخصم السياسي وفاعلية وقوة حضوره.وهي إنتقال مشفوع بغلاف أيديولوجي لابد منه،إلى عالم المصالح المتناقضة،غير القابلة للإستمرار في شكلها الذي بات متخلفاً عن الوقائع الجديدة ومقتضياتها.من هنا الحوار سيفضي بلا ريب إلى تعديلات تأخذ بالحسبان ميزان القوى الجديد،في سعي لإيقاف سيرورة التغيير المنشود عند حد الإصلاح.
لكن تأكد عجز هذه الطغمة العسكرية تاريخياً،وهو تاريخ إستيلائها على السلطة العمومية في الثامن من آذار 1963،عن الإيفاء بالغرض من دلالاتها،ولا التعبير عن الحالة المراد وصفها ولا تعبر عنها على الإطلاق،ليأتي السؤال عن الكيفيات التي تبرز ميزان القوى مع سلطة حربية وترغمها على الحوار،ولنا في التجارب السياسية للشعوب مثلاً عن العجز في إنتاج وإبراز وسيلة لذلك،بشفاعة أدوات من القرطاسية قوامها أوراق وأقلام وجرائد،تهدف إلى التحفيز الشعبي للدخول إلى الشوارع والساحات العامة،بغية إسماع الصوت،وسرد أسباب الخروج.وتزداد المهمة تعقيداً،مع سلطة حربية،أوكلت لها مهام إمبريالية صغرى ومتوسطة.من هنا يمكن فهم الأسباب العميقة لفشل الإنتفاضتين الفلسطينيتين،ومن هنا كذلك،يمكن تلمس المأزق في الإنتفاضة الشعبية الثورية السورية،الفكرة الشاعرية عن العين التي تقاوم مخرزاً،لا تصلح كمادة تفسيرية،لما سيأتي به الصراع ونتائجه.
قليلة هي السلطات التي حظيت على مر التاريخ،بتواتر فرص الإصلاح،مرات تقدم بها العامة أو ممثلوها الإفتراضيون أو الحقيقيون، بتوسل يكاد يصل إلى تقبيل يدها،ومرات تتقدم به النخبة التي تدور في فلك الإصلاح،هناك التجربة الروسية القيصرية والتجربة العثمانية،ويمكن إدراج التجربة السوفياتية في السياق نفسه-العجز عن الإصلاح- لكون للإصلاح ثمن وضحايا،والثمن والضحايا على تواضعهما لا يمكن أن تدفعهما سوى الطبقة الحاكمة والمالكة من بعض إمتيازاتها وغنائمها،ولأن العامة قد وصلت إلى الدرك الأسفل من المظلومية،لم يعد بعده سوى القبر.
هل الطبقة المسيطرة رقيقة وغير متجذرة، لدرجة عجزها في سوريا وخلال خمسون عاماً عن بناء مصالحها وفق شرعية قانونية عمومية،خارج قانون الطوارئ والأحكام العرفية والمحاكم الإستثنائية…وسواهم من إطارات سياسية-حقوقية،وهل هذا الزمن الطويل لم يستوفي شروط تمكينها من بناء شرعيتها الطبقية-السياسية،أم هناك إستعصاء تاريخي يحول دون عبورها الآمن، لإنتاج شرعية ديموقراطية والإحتفاظ بالسلطة السياسية في آن،أم هي المشكلة البنيوية للفئة المهيمنة منها،”بورجوازية قوانين الطوارئ”.
نعم،كل السلطات السياسية الماضية وربما القادمة،لم ولن تأتي للحوار ولن تسقط بوسائل سلمية،والذي سقط منها،خفي عنا منه حيزاً لا مرئياً،من الضرورة المعرفية،إسقاط الضوء المبهر عليه لرؤيته بوضوح،وإظهاره لكل الناس.هي فرصة زمنية،ليتساءل الكثيرون ببراءة،لماذا لا يسقط هذا؟تساؤل الفلاح المثابر الصبور،لماذا لا تنتج هذه البقرة هنا كميات الحليب الذي تنتجها هناك،في هولندا على سبيل المثال،هل بسبب الموسيقى مثلاً،وهل أغاني علي الديك تبدد الحليب وتجفف ضرعه؟
ما الذي يجعل هذا لايسقط،بينما يسقط الآخرون،أو يدعون السقوط،بإفتعال زلات قدم على سبيل المثال،نقص التضحية لا يفسر ما يحصل.ولا يمكن التخفيف من قيمة العوامل الذاتية،وفي معظمها آثار باقية للإستراتيجيات الأمنية والحربية والسياسية المحكمة والعنيفة،على القوى المتفاعلة مع الواقعة.من المكابرة إظهار السيطرة على كل العقبات التي ترميها الطغمة كأكياس النفايات التاريخية،في وجه الإنتفاضة الشعبية،من مثل الطائفية،وآلاف السجناء الجنائيين المفرج عنهم خلسة أو بموجب سلسلة مراسيم العفو،والذين شجعوا على تنظيم عصابات الإجرام والتشليح وطلب الفديات،وآلاف المطلوبين الجنائيين الذي أمرت الأجهزة التنفيذية بكف البحث عنهم،كذلك السجناء الإسلاميين،الذي سهل أمر إختراقهم للعمل العسكري،والعمل المنهجي الدؤوب عند الأنظمة العربية على تفريغ الإنتفاضة الشعبية من قيمها الثورية والعوامل الدولية الإمبريالية،ويسبقهم الأساس المرئي بوضوح،البرنامج اليومي:إعلان الحرب على الإنتفاضة الشعبية الثورية،وتدمير مرتكزاتها،بإستخدام كل الممكنات الحربية التي كان يهدد بها العدو الوطني،ولم تستخدم إلا في هذه الحرب السياسية-الطبقية.
حلب-كانون الأول2012.
خاص – صفحات سورية –