الخارج إذ يدفع إلى الاستقالة من السياسة/ عمر قدور
معارض بارز وعد السوريين بالنصر في الصيف المقبل، وحدد موعداً له لا يتجاوز الشهر السابع من هذا العام. لكنه بعد مضي أسبوع تحدث في مقالة له عن انتصارات النظام، وميلان الكفة لصالحه. رئيس ائتلاف المعارضة، في زيارته إلى منطقة محررة، وعد المقاتلين بتدفق الأسلحة النوعية التي ستقلب المعادلة، إثر تلك التصريحات، فقدت المعارضة السيطرة على واحدة من أهم النقاط الإستراتيجية، وهي يبرود. ثم على الصعيد السياسي، بدل أن يشغل الائتلاف مقعد سوريا الممنوح له في الجامعة العربية، تُرك المقعد فارغاً إلا من العلم، الذي بات يُنظر إليه كرمز للنظام.
على كثرة إطلالاتها التلفزيونية والصحافية، لا تقدّم شخصيات المعارضة تبريراً صريحاً للتناقضات الآنفة الذكر، وتترك للسوريين ومتابعي شأنهم العثور على الإجابات في مكان آخر. كأن نحظى بتسريب من الصحافة الأميركية عن شحنة أسلحة نوعية أوقفتها الإدارة الأميركية في الأردن، ومنعت وصولها إلى الجيش الحر في الداخل. في المقابل، لم يتردد موظف أميركي سابق، هو السفير فورد، في إلقاء تبعات الفشل في سوريا على المعارضة أولاً، وحجته في ذلك عدم طمأنتها علويي سوريا؛ السفير فورد بحكم إشرافه المباشر على الملف السوري، كان على علاقة مستمرة بشخصيات المعارضة، ولم يتعرض أداؤه إلى انتقادات علنية من قبلها، على الرغم من دوره المعروف في تنفيذ توجهات البيت الأبيض، التي أثبتت فشلها الذريع حتى الآن.
بات واضحاً منذ سنتين تقريباً، أن السوريين واقعون بين سندان الإدارة الأميركية ومطرقة الروس والإيرانيين. ذلك ما لم تصرّح به المعارضة وتركت أمره للمحللين والمتابعين. وفي العديد من المناسبات روّجت لتغييرات أو وعود أميركية، آخرها الحديث عن تغير في الموقف الأميركي فيما لو أفشل النظام مؤتمر جنيف. الأسلحة النوعية التي مُنعت من الوصول أتت بعد جنيف2، أي أن الإدارة لحست وعدها الأخير أسوة بوعودها السابقة، مع أنها حمّلت رسمياً النظام مسؤولية فشل المفاوضات. أما تصريحات فورد الأخيرة في جلسة للكونغرس، فليس متوقعاً أن تثير سوى الاستياء العابر، أو ربما تفنيداً إعلامياً لها؛ أنْ يحتج الائتلاف رسمياً لدى الإدارة الأميركية أمر مستبعد تماماً، ما دام يراهن على عدم إغضابها، سبيلاً وحيداً لنيل دعمها المنتظر منذ سنتين.
توسل الدعم الخارجي ليس خطأ في حد ذاته، بما أن الشأن السوري صار مفتوحاً على شتى أنواع التدخلات الدولية والإقليمية، وبما أن النظام هو أول من استدعى الدعم الخارجي، ممثلاً بسيل الأسلحة الروسية والإيرانية، ثم سيل الميليشيات الشيعية من لبنان والعراق. في مثل هذه الظروف، يصبح التعفف التام عن العلاقة بالخارج هزلياً، ولا ينم عن واقعية سياسية. إلا أن الجانب الآخر، الذي يتستر بالواقعية والذي لا يقل سطحية، هو النظر إلى الخارج بوصفه المتحكم الأوحد بالقرار الداخلي، والتعويل التام عليه. التسليم للخارج يطرح نفسه وفق صيغتين تبسيطيتين على الأقل؛ أولاهما مساندة للحل العسكري، وتتحين فرصة التغيير في المزاج الدولي للحصول على دعم حاسم. وثانيتهما، تقرأ التوازنات الدولية الحالية وتبني عليها استحالة الحسم فتتوسل وفاقاً دولياً يجري فرضه على الأرض. وعلى رغم الاختلاف بين الصيغتين، إلا أنهما تتفقان على انتظار الحل من الخارج، وتقرّان بالعجز إزاء الأخير، كما تقرّان بانسداد الأفق الداخلي للحل؛ لا الحل بين النظام والمعارضة فقط، وإنما الحل الذي يمكّن الأخيرة ويجعلها أكثر تماسكاً وتنظيماً.
كان يشفع للمعارضة قبل سنتين أنها ظلت طوال حكم البعث بعيدة عن ممارسة السياسة الداخلية والخارجية، بسبب تجريمهما من قبل النظام. هذا لم يعد مقبولاً بعد اكتسابها خبرة في العلاقات الخارجية والانفتاح الدولي عليها، وأيضاً بعد اكتسابها خيبات عديدة، نتيجة الوعود الكاذبة من هنا أو هناك. لا يُستثنى منها أولئك الذين يرفضون ظاهرياً التدخل الخارجي، ثم ظهرت خيبتهم من وعود حلفائهم الروس الذين وعودوهم بأن يكونوا المفاوضين الأساسيين للنظام في جنيف، وتراجعوا عن وعودهم ضمن التفاهم مع إدارة أوباما. في الواقع، تتناسب الوعود الدولية مع المعطيات الميدانية، هذا لا يعني أنها لا تؤثر فيها أيضاً، أما أن يرهن الحراك الميداني نفسه للوعود الدولية، فأمر يجرده من المشاركة في القرار الدولي أو التأثير فيه.
التسليم بتدويل الملف السوري يعني العجز النهائي لكافة قوى المعارضة، والذي يُفهم منه عجزاً نهائياً لكافة قوى الثورة، على رغم أن المعارضة والثورة غير متطابقتين. التسليم التام بذلك، يعني فشل السوريين الذريع في ممارسة السياسة مع أول فرصة أتيحت لهم. وهو قد يكون فشلاً تأسيسياً، في حال استمرار الوضع على ما هو عليه من فتح الأبواب أمام التدخل والتمويل الخارجيين. قد تصبح النخبة السياسية والعسكرية ممثِّلة للعديد من المصالح الخارجية، على حساب تمثيلها للمصالح الوطنية. إن جزءاً معتبراً من خلافات المعارضة وخلافات الكتائب المسلحة يعود إلى هذا السبب. ويُرجح أن غياب التفاهم الخارجي وانعكاساته الداخلية هما السبب وراء خسارة العديد من المعارك. سوريا ليست استثناء على هذا الصعيد، فالفشل الوطني المستدام، يُرى مثاله ساطعاً في التجربة اللبنانية، على الأقل منذ الحرب الأهلية الأخيرة. وقد أدى إلى استقالة نسبة كبيرة من اللبنانيين من السياسة، لشعورها بأنها لا تملك حيلة إزاء القرار الوطني العام.
إن جانباً من أهم ما كشفت عنه الثورة هو ارتهان النظام الكلي للخارج وشبكة تحالفاته وتفاهماته، الممتدة من طهران إلى تل أبيب، على حساب ما هو وطني. وإذا كان الكثير من المعارضين يعي ذلك، ويعدّه نوعاً من العمالة فالأولى ألا تكرر المعارضة تجربة النظام، بخاصة ألا تقدّم تنازلات مجانية عن القرار السوري. فكل ما قد تحصل عليه من دون التقدم الحقيقي نحو إسقاط النظام، لا يبرر تحالفاتها ولا يصب فعلياً في خانة المصالح المشتركة. من المنطقي أن تشعر المعارضة بالضعف إزاء القوى الخارجية. لكن تسليمها المستمر بهذه الخلاصة، يعيقها عن تعزيز قوتها الذاتية، وقد يفصلها عن الواقع السوري نفسه الذي يطور قواه، أو يجعلها ملائمة سلباً أو إيجاباً للظروف المتغيرة. وقد يكون أسوأ ما تفعله تلك القوى هو التكيف مع واقع التشرذم والانقسام، بحيث تطور كل منطقة دفاعاتها وتحالفاتها الذاتية، بمعزل عن أية إستراتيجية عامة.
نعم، قد يصبح الخارج مدخلاً إلى الفساد، ولا يقتصر الأمر على فساد مالي هنا أو هناك يتعلق بالمنح والمعونات. هو في المقام الأول إفساد الموارد الذاتية للثورة، وفي مقدمها هدر الموارد البشرية في معارك وجبهات لا تنسيق بينها، ولا إستراتيجية شاملة تجمعها. العلة هنا فيما راحت تفرضه الإمدادات الخارجية وسياسات أصحابها الدوليين والإقليميين. غير أن العلة لا تقتصر على الخارج أو العسكرة ففي أيام النضال السلمي فشلت الدعوات المتكررة إلى إضراب عام فشلاً ذريعاً. وما ينبغي رؤيته، هو أن الانقسام الذي حال دون نجاح الإضراب العام هو من الطبيعة ذاتها التي حالت دون وجود قيادة مشتركة ذات إستراتيجية وطنية للكتائب المسلحة، ودون وجود هيئة سياسية مشتركة، للمعارضة. أي أن المعارضة عجزت عن ممارسة السياسة وتطوير أدواتها في الداخل، مثلما عجزت عن ممارستها في الخارج. بل إن عجزها في الداخل هو الذي أدى إلى تفاقم ضعفها الخارجي. ما تقوله تجارب مماثلة سابقة، وما تقوله التجربة السورية الحالية أيضاً، أن الخارج سيلقي باللوم على الداخل، بسبب تشتته وانقسامه، حتى إذا كان مساهماً أساسياً في صنعهما. أما إلقاء الداخل بتبعات عجزه كلياً على الخارج، فهذه مقدمة للاستقالة من السياسة، ومن المؤسف أن يُقدم عليها السوريون قبل ممارستها فعلاً.
المستقبل