الخلافات الخليجية والحال العربي/ عمار ديوب
أثار الدور القطري، قبل الثورات العربية وفي أثنائها، تحليلاتٍ كثيرة، وتركّزت على التناقض بين ضخامة الدور إقليمياً وصغر مساحة الإمارة! اقتصرت التحليلات “اللئيمة” على دورٍ مرسوم لها إسرائيلياً وأميركيا، ويستند إلى وجود قاعدة العديد العسكرية الأميركية في قطر، أو إلى التحالف مع جماعة الإخوان المسلمين ودعم حركة حماس. عكس ذلك نقول: إن لدى إمارة قطر مشاريع اقتصادية ناجحة ومستندة بالتأكيد إلى ريع الغاز، وهي تقوم بدور سياسي إقليمي كبير، وهذه هي المشكلة الحقيقيّة والمغيبة.
كذلك مشكلة قطر في أنّها خرجت من دائرة الدول العربية التقليدية، حيث القمع الكامل والإفقار الممنهج والدور المرسوم لها، أو محدودية الدور؛ فلها علاقاتٌ قويةٌ مع أكثر من دولة وبشكل متناقض، تبدأ بإيران وتمرّ بسورية وروسيا وأميركا. أتاح لها هذا التنوع، إضافة إلى عائدات الغاز، التخطيط والمنافسة ضمن الدول الخليجية، ولا سيما عبر الخطوط الجوية القطرية الأولى خليجياً. وليس من فقرٍ في قطر، وهي بالتأكيد ليست نظاماً ديموقراطياً، وربما لن تكون في وقت قريب، وحالها هذا يشبه حال بقية دول الخليج.
يظلُّ السؤال: لماذا كل هذا الهجوم الشديد على قطر الآن؟ يتأتى السؤال من أن قطر، ومنذ أكثر من عامين، لم تعد في واجهة الحدث العربي داعمة للثورات، وتراجعت تغطيتُها الحدث السوري بشكل كبير، والأمر ذاته يخص مصر، وإن ظل الانتقاد لها مستمراً، وبخصوص إسرائيل فالعلاقات معها مقطوعة منذ ما قبل الحرب العدوانية على غزة في 2009. أما حجّة دعم الإرهاب، فنسأل هل ظلَّت دولة عربية فاعلة أو إقليمية ولم تدعم فصيلاً يرفع راية إسلامية في سورية، أو فَرضت عليه تلك الراية. نعم سياسات الدول الإقليمية كانت نحو أسلمة الثورة السورية، وقد التقوا في ذلك مع النظام السوري.
“لا مصلحة للدول الخليجية في هذا الخلاف المستعر، وأيضاً هو ضرر كبير على كل الدول العربية”
تكمن قضية قطر في رفضها الدور المحدّد والمحدود لها، وتدخلها في مسائل هي غاية في الحساسية، مثل إقامة علاقات مع حركة طالبان أفغانستان والإخوان المسلمين عالمياً، ووجود علاقات مع إيران، ورفض الخضوع للسياسة السعودية كما تريد الرياض؛ وهناك معلومات عن زيادة الاستثمارات القطرية في روسيا وإيران وتركيا، وبالتالي، هناك تخطيط أقرب إلى الدولة الإقليمية. هذه المكانة بالتحديد، مرفوضة من مصر والسعودية. ربما هناك أخطاء في سياسات قطر، ولا سيما بخصوص العلاقة المميزة مع “الإخوان المسلمين”، فهذا التنظيم في النهاية أصولي ومانع كل تطور حداثي عام، ولكن السؤال: ما هي سياسات العربية السعودية بخصوص الأسلمة وتسييس الدين؟ وماذا فعلت الإمارات بما يخص الثورات العربية أو العلاقة مع إسرائيل أو إيران، ألم تعاد الثورات العربية، وتقِم علاقات مع إيران وإسرائيل؟
الخلاف الخليجي يضرّ بالمصالح العربية، وستستفيد منه أميركا بالتحديد؛ فقد عُقدت صفقة الطائرات (72 طائرة) أخيرا بين قطر وأميركا، وقبل ذلك الصفقة الكبرى مع السعودية. الفائدة الكبرى الأخرى هي لصالح إيران، والتي تدخلت فوراً وأعلنت الوقوف إلى جانب قطر، وفتحت لها بعض موانئها للتجارة، وهناك موقف تركي يؤكد المنحى ذاته، أي عدم ترك قطر أمام الهجوم المستجد.
يمكن القول إنه لا مصلحة للدول الخليجية في هذا الخلاف المستعر، وأيضاً هو ضرر كبير على كل الدول العربية، بدءاً باليمن الذي تفتك به الأمراض والتدخل الإيراني والحروب، ومروراً بسورية التي تدمرت بعد أن تدوّلت! وليس انتهاءً بليبيا التي تكاد تتجزأ. تقول المصلحة العربية برفض هذا الخلاف، ورفض الانحياز إلى أي طرفٍ للصراع، والدفع بطرفي الخلاف لإنهائه فوراً، وإن تراكم التعقيدات فيه سيؤجِّل إنهاءَه، وستكون فائدة كاملة للدول الإقليمية كما ذكرنا.
الدول العربية معنية بحل مشكلاتها، والبحث عن شكلٍ للتعامل مع شعوبها، بما يعزّز من دور الشعوب، فتتعزز سلطة الأنظمة وليس العكس، أي ستظل الأنظمة ضعيفةً، ما دامت الشعوب ضعيفة. أيضاً لا تفيد الحماية الأميركية لتغليب بعضها على بعض. الإعلام بدوره، وعلى الرغم من معرفتنا بتبعيته للتمويل، فإنّ دوره في ظل الصراعات المستعرة في المنطقة والتدخلات، الأميركية والروسية والإيرانية والتركية والإسرائيلية، يجب ألا ينشغل بالخلاف الخليجي كما نراه يومياً، بل بطرح مشكلات المنطقة، بما هي محتلّة أو تابعة للدول المذكورة سابقاً، والتي تستهدف تغييب العرب بشكل كامل عن أيّة فاعليّة داخل دولهم وإقليمياً وعالمياً.
أعتقد أن المصلحة العربية تقتضي حلاً دبلوماسياً سريعاً لهذا الخلاف. ومن أجل المصلحة نفسها هذه، من الضرورة التخلص من الأخطاء، ويكمن ذلك في إعطاء فسحةٍ أكبر من
“تكمن قضية قطر في رفضها الدور المحدّد والمحدود لها، وتدخلها في مسائل هي غاية في الحساسية” الحريات لشعوبها وإشراكها بتقرير شكل حياتها، وبالتأكيد إنهاء كل دعم للأصوليات، وبمختلف أشكالها، من وهابيةٍ وسلفيةٍ وجهاديةٍ وكل أشكال الإسلام السياسي. وهذا أمر لم تفعله كل الدول العربية حتى الآن. تنزيه الدين وإبعاد السلطة الدينية عن السلطة والدولة هي المهمة التي تقف أمام الأنظمة العربية والشعوب وثوراتها كذلك.
اتهام قطر بدعم الإرهاب وتمويله، أو رد التهمة وتوجيهها للدول المختلفة معها، ليست هي السياسة السليمة؛ فهناك علاقاتٌ خاطئةٌ تخص كل الدول العربية كما ذكرنا، فالتفتت الهوياتي والحروب على أساس الدين والمذهب والانتقال المستمر لهذه الحروب من دولة إلى أخرى، كلها وقائع تقول بضرورة فك هذه العلاقة بين الدين والسياسة.
الممانعون الأذكياء، والذين يرفضون أي دور لقطر بدعم المقاومة، ينافقون، فدعم قطر لحزب الله بالتحديد في حرب إسرائيل ضد لبنان، وقبل ذلك التدخل لإجراء مصالحة كبرى في لبنان، عناصر تقول إن أحد أهدافها هو حماية حزب الله و”مقاومته” وكذلك إعمار الضاحية الجنوبية، ويضاف إلى ذلك الوقوف مع حركة حماس وإعادة إعمار غزة والدفاع عن مقدسات القدس.
النقاش أعلاه والدائر كذلك في الصحافة المدعومة خليجياً وعبر الفضائيات يُباعد بين الدول ويزيد الخلاف، وبالتالي يجب دعم أي جهود دبلوماسية (الكويت، عُمان وسواهما) لحل الخلاف، وإيجاد سياسة عربية لا خليجية فقط، وبما يُخرج الشعوب العربية من الإفقار والشموليات ورفض كل تسييس للدين ومحاربة الأصوليات والإرهاب.
هذه هي مهمة الإعلام العربي حالياً؛ وهذا ربما يكون المدخل لإيقاف الانهيار العربي بكل أشكاله.
العربي الجديد