الخناق يضيق على سورية
عبد الباري عطوان
في ظل نجاح روسيا والصين في شلّ فاعلية مجلس الامن الدولي من خلال استخدامهما الفيتو لعرقلة صدور اي قرار بفرض عقوبات دولية، او اعطاء الضوء الاخضر لتدخل عسكري على غرار ليبيا، بات التحرك الغربي بقيادة الولايات المتحدة محصورا في ثلاثة امور رئيسية:
*الاول: تحالف الراغبين المتمثل في منظومة اصدقاء سورية، ويضم معظم دول اوروبا الغربية، علاوة على دول عربية تسير تحت مظلة التحالف الغربي.
*الثاني: مجموعة العمل حول سورية التي اخترعها كوفي عنان مبعوث الامم المتحدة، وتشكل مظلة اوسع تنضوي تحتها دول مثل روسيا، وربما ايران، الى جانب الولايات المتحدة، وتعقد اول اجتماعاتها السبت في جنيف ‘بهدف تحديد مبادئ ومراحل الخروج من الأزمة وتطبيق عملية انتقالية’.
*الثالث: مثلث سعودي ـ تركي ـ قطري يعمل على الارض من اجل انهاك النظام السوري واستنزافه وتقويض قواعد قوته العسكرية والامنية، من خلال دعم عسكري ومالي غير مسبوق، يذكّر بدعم المجاهدين الافغان في الثمانينات من القرن الماضي لالحاق هزيمة بالقوات السوفييتية واجبارها على الانسحاب.
التحركان الاول والثاني يصبان في مصلحة التحرك الثالث، او بالاحرى يوفران الغطاء له، من حيث الايحاء بأن هناك تحركا دوليا وغربيا دبلوماسيا لانهاء الأزمة سلميا، بينما التركيز الحقيقي يتجسد في العمل على انهائها عسكريا، ولكن بطريقة جديدة مختلفة، واقل تكلفة ماديا وبشريا، بالمقارنة مع التدخلات العسكرية الغربية في ليبيا والعراق وافغانستان.
الأموال الخليجية، والسعودية بالذات، هي التي موّلت الحرب في افغانستان في الثمانينات، والاموال نفسها هي التي تمول الحرب ماديا وعسكريا في سورية بدعم امريكي ـ تركي. بمعنى آخر ان تركيا حلت محل باكستان، وباتت تلعب دورا في سورية مماثلا لدور باكستان السابق واللاحق في افغانستان.
رجب طيب اردوغان اطلق العديد من التهديدات بالانتقام لإسقاط طائرته العسكرية قبالة الشواطئ السورية، ولكنها تهديدات مماثلة لتلك التي اطلقها اثناء الهجوم الاسرائيلي على سفينة مرمرة، التي كانت تريد كسر حصار قطاع غزة. اردوغان لا يريد الاستجابة للاستفزاز السوري، لأنه يتجنب الحرب اولا، ولأنه يتزعم دولة مؤسسات القرار فيها ليس في يد فرد مهما علا شأنه، ولأن هناك احزاب معارضة قوية، ومؤسسة عسكرية لا يمكن تجاهلها.
‘ ‘ ‘
مستشار كبير لأردوغان اكدّ لي هذه الحقيقة عندما قال بالحرف الواحد ‘لن يكون هناك اي رد تركي انتقامي على اسقاط الطائرة، لان تركيا تريد ان يظل الصراع محصورا بين الشعب السوري والرئيس الاسد’.
ماذا يعني هذا الكلام؟ يعني ان الانتقام التركي بدأ قبل اسقاط الطائرة بعام على الاقل، عندما فتحت تركيا اراضيها للمعارضة السورية، وجعلتها ممرا لعبور صفقات الاسلحة الضخمة والحديثة الى الجيش السوري الحر، والوحدات العسكرية التي تعمل تحت مظلته.
مصادر سورية في اوساط المعارضة اكدت ان نائبا لبنانيا معروفا ،من المقربين جدا لسعد الحريري رئيس الوزراء السابق، اقام مقرا ضخما في مدينة اسطنبول ويقوم بدور ضابط الاتصال لتمويل وتسليح المعارضة السورية، ويجلس على صندوق يحتوي على مليارات الدولارات.
المثلث التركي ـ السعودي ـ القطري استطاع ان يترك بصماته على الارض، ويغيّر ولو بشكل تدريجي متسارع من معادلات القوة على الارض، وانعكس ذلك بوضوح من خلال وصول هجمات الجيش السوري الحر الى قلب العاصمة دمشق، وقصف قوات الحرس الجمهوري الحامية لها، واقتحام ونسف محطة ‘الاخبارية’ التلفزيونية، وخطف لواء طيار من بيته، وتشجيع انشقاق العديد من الرتب العسكرية الكبرى.
الرئيس بشار الاسد اعترف في الخطاب الذي القاه في الاجتماع الاول لمجلس الوزراء الجديد بانه يواجه حربا حقيقية، وهو الذي كان يتحدث في السابق عن جماعات ‘ارهابية’ مسلحة، وهذا الاعتراف ينهي ‘حالة الانكار’ التي تبناها طوال الـ15 شهرا الماضية من عمر الأزمة.
الحرب لا تقتصر على المواجهات على الارض واستخدام اسلحة حديثة مكنت المعارضة المسلحة من اسقاط طائرات عمودية، وتدمير دبابات (امريكا زوّدت المجاهدين الافغان بصواريخ ستنغر المحمولة على الكتف نجحت في اسقاط طائرات وحسم الحرب، ورفضت تزويد دول مثل قطر بهذه الصواريخ، والتاريخ يعيد نفسه) والاخطر من ذلك ان اتصالات تجري مع بعض قيادات الطائفة العلوية القريبة من النظام لإغرائها بالمال الكثير اذا ما تخلت عن الرئيس بشار، وبعض ابناء عمومته بلعوا الطعم وباتوا يلعبون دور الوسيط في هذا الاطار.
‘ ‘ ‘
النظام السوري في المقابل، وبعد ان اطمأن الى ضعف احتمالات تدخل الناتو عسكريا لإسقاطه، بدأ ينتقل من مرحلة الدفاع الى مرحلة الهجوم، وقد تجسد هذا بوضوح في اسقاط الطائرة العسكرية، لإيصال رسالة قوية الى تركيا وامريكا بانه لن يستسلم وسيتصدى لأي هجوم يستهدفه.
الطائرة العسكرية التركية لم تكن في نزهة عندما اخترقت الأجواء السورية، وانما في عملية اختبار للنوايا والدفاعات السورية، فجاء الرد بإسقاطها مفاجئا. واذا صحت الانباء بان مدافع ايرانية مضادة للطائرات تطلق 5000 قذيفة في الدقيقة هي التي اسقطتها فعلا، فإن الرسالة تبدو مزدوجة هنا، واحدة سورية، واخرى ايرانية، وان كنا لا نرى اي فرق بين الاثنتين على اي حال.
الاوضاع في سورية تجاوزت مرحلة الحرب الاهلية الطائفية، واصبح النظام يواجه ثورة مسلحة، حيث تتعاظم الخسائر في صفوف قواته يوما بعد يوم، وتتراجع المظاهرات والاحتجاجات لمصلحة تزايد الهجمات العسكرية، مما يوحي بأن الصراع سيطول حتى يتم حسمه عسكريا لمصلحة هذا الطرف او ذاك.
ومن هنا فإن فرص نجاح مؤتمر كوفي عنان الذي سيعقد في جنيف السبت، تبدو محدودة للغاية، تماما مثل فرص مبادرته ونقاطها الست لوقف العنف في سورية. فالرئيس بشار لا ينوي التنحي، وروسيا والصين تدعمان موقفه، ولا نعتقد ان ايران ستتخلى عنه، مع الاشارة الى ان الانشقاقات داخل قوات جيشه ما زالت محدودة من حيث العدد والعتاد.
الصراع في سورية سيطول اكثر مما توقعه اعداء النظام، ولو عرف هؤلاء، واولهم المملكة العربية السعودية، ان هذا النظام سيصمد 15 شهرا لوقفوا الى جانبه وساندوه مثلما فعلوا طوال الاربعين عاما الماضية!
هناك تنبوءات بأن الاسد سيسقط في نهاية المطاف، وربما تكون صحيحة او مبالغا فيها تشي بتمنيات اصحابها، ولكنه اذا سقط فإنه ربما يأخذ معه آخرين، وعلى البعض ان يتحسس رأسه!
القدس العربي