الخيارات الصعبة أمام النظام السوري
سليم نصار *
من أبلغ التعليقات التي صدرت حول خطاب الرئيس بشار الأسد، كان التعليق التالي: إنه دواء سياسي ناجع لولا أن مدة مفعوله قد انتهت، وأصبح علاجاً عتيقاً لا يشفي الأزمة المتنامية.
ويستدل من هذا التعليق الذي تناقلته الصحف الأجنبية، أن الدول الغربية الداعية الى تغيير جذري في طبيعة النظام، كانت تتوقع من الرئيس الشاب إحداث نقلة نوعية أكبر من الإصلاحات الموعودة. خصوصاً أن معايير التصنيف الاقتصادي، لا تزال تضع سورية في عداد الدول الخارجة على معايير النظام العالمي، مثل كوبا وكوريا الشمالية.
علماً بأن الرئيس فيديل كاسترو، طالب شقيقه ووريثه في الحكم راوول، بأن يسرع حركة التغيير بهدف الخروج من دائرة العالم الثالث. وقد عززت سياسة الانفتاح على الجارة الكبرى (الولايات المتحدة) فرص التبادل التجاري بحيث بلغت قيمة مشتريات المواد الغذائية للسنة الماضية أكثر من 366 مليون دولار. ويعتبر هذا المبلغ مرضياً لتحريك اقتصاد كوبا الراكد.
وعقب تولي بشار الأسد رئاسة الجمهورية السورية خلفاً لوالده سنة ألفين، حاول تحديث صورة النظام الذي قاده حافظ الأسد منذ عام 1970. وأعلن في خطاب القسم احترامه لحق الاختلاف في وجهات النظر، الأمر الذي اعتبره «الحرس القديم» تجاوزاً للمادة الثامنة من الدستور السوري. أي المادة التي تنص على أن حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد في المجتمع والدولة. لذلك اضطر الى تجاوز هذه الخطوة في حينه، مستعيضاً عنها بخطوة أخرى تتمثل بفتح ملف الفساد والإفساد. وبما أن غالبية المرتكبين كانت محسوبة على النظام وأنصاره، فقد تعرض الرئيس الجديد لتدخل كبار المسؤولين الذين طالبوا بإرجاء إعلان الأسماء، خوفاً من استغلالها لتشويه سمعة الحزب.
وفي صيف 2001 قامت الأجهزة الأمنية باعتقال بعض رموز «ربيع دمشق» ممن توقعوا حدوث انفراج سياسي بعد التركيز على الديموقراطية في خطاب القسم. ولكنهم سرعان ما تبينوا أن حزب البعث ما زال يطبق المادة الثامنة من الدستور منذ سنة 1963.
ويستدل من مراجعة سلسلة النصائح التي قدمتها تركيا على لسان رئيس الجمهورية عبدالله غل ورئيس الحكومة رجب طيب أردوغان، أن دعوتهما للتغيير تركزت على تعديل هذه المادة. وهذا ما يعنيه الرئيس غل عندما يقول إنه كان يتمنى لو قال الرئيس بشار إن بلاده ستنتقل الى نظام حزبي تعددي يكفل حرية الرأي لكل المواطنين. ومثل هذا الكلام كرره أردوغان بصيغ مختلفة. ولم يكن مؤتمر أنطاليا الذي رعته أنقرة، أكثر من مسودة مشروع لصهر كل حقوق مكونات الشعب السوري في الدستور الجديد.
يرى المراقبون أن الصداقة المتينة التي كانت تجمع بين الأسد وأردوغان، والتي ترجمت الى عدة اتفاقيات سياسية واقتصادية وإدارية ومائية… هذه الصداقة جعلت رئيس وزراء تركيا يتخطى دور الجامعة العربية وينصح صديقه بضرورة إحداث إصلاحات عاجلة على مستوى حزب السلطة أو على مستوى مؤسسات الدولة. وقد دعم نصائحه بتخفيف الحملات الإعلامية التي شنت ضد النظام السوري، وذلك باحتضان عشرة آلاف لاجئ هربوا من المدن والقرى الحدودية. واللافت أن تركيا تولت وحدها مسؤولية إيوائهم وإطعامهم، رافضة كل المساعدات الخارجية.
خصوصاً أن إسرائيل عرضت عليها نقل جزء منهم بغرض تسويق «دورها الإنساني». وذكرت صحيفة «معاريف» أن إسرائيل سبق لها عام 1970 أن استقبلت عناصر من «فتح» أثناء مطاردتهم من قبل الجيش الأردني (أيلول الأسود).
يقول بعض المحللين إن اهتمام تركيا في الشأن السوري ناتج من عدة اعتبارات سياسية وأمنية واستراتيجية، أهمها: أولاً – يتخوف أردوغان من استمرار العصيان الشعبي في سورية بحيث تتحول التظاهرات اليومية الى اشتباكات مسلحة تدفع بالآف الأكراد الى الهرب باتجاه تركيا، في حين يهرب المسيحيون (عددهم مليونان) الى لبنان. وهذا يعني تعزيز تيار انفصال الأكراد في جنوب البلاد، الأمر الذي يجبر أنقرة على إنشاء منطقة عازلة يلجأ إليها الهاربون. خصوصاً أن عدد الأكراد في سورية يربو على ثلاثة ملايين ونصف المليون نسمة.
ثانياً – في حال استمرت التظاهرات – نزولاً عند طلب قيادات المعارضة – طوال شهر رمضان المبارك، خصوصاً في ساعات الليل، فإن دمشق وحلب مرشحتان للانضمام الى حملة الاحتجاجات. ويتوقع المراقبون تحرك فعاليات الطبقة الوسطى ونقابات التجار والصناعيين الذين سيتأثرون حتماً بالأزمة الاقتصادية الخانقة.
ثالثاً – يتهم حزب «البعث» الحاكم في سورية، قيادة «الإخوان المسلمين» بالعمل على تأجيج مشاعر المسلمين السنّة الذين يتعاطفون مع المعارضة في الأرياف ومدن الأطراف. ولكن التهديد الذي وجهه بشار الأسد في خطابه الى المسلحين، أثبت أنه عازم على ممارسة سياسة التحدي التي سبق لوالده أن مارسها في حماه عام 1982.
رابعاً – طلبت تركيا من الاتحاد الأوروبي إعادة النظر في مضمون خطاب الأسد قبل اتخاذ موقف نهائي من الوعود التي قطعها على نفسه، مؤكداً أن التعديلات الدستورية رهن باتفاق المتحاورين. وحذر أردوغان من مخاطر حشر الأسد في زاوية العقوبات، الأمر الذي يؤدي الى انفجار حرب طائفية واسعة بين السنّة والعلويين والأكراد والدروز والمسيحيين. ويخشى اللبنانيون أن الحرب الطائفية داخل سورية ستدفع «حزب الله» الى التدخل خارج الحدود، بحيث تمتد نار الفتنة الى لبنان – مثلما حدث عام 1860 – من دون أن يكون هناك عبدالقادر الجزائري ليحمي المستضعفين.
هذا، ولتفادي الوقوع في المطبات الطائفية، شكل الأسد «هيئة الحوار الوطني»، على أن يتم اختيار من تقترحهم المعارضة من أجل صوغ التعديلات المطلوبة. وقد حظي الكتاب والمثقفون والمحامون بالمشاركة في وضع آلية الحوار.
وزير خارجية سورية وليد المعلم عقد مؤتمراً صحافياً انتقد فيه دور الاتحاد الأوروبي، وأعلن أن بلاده محت القارة الأوروبية من أطلسها. وقال إن فضاء سورية الجديد سيكون في الشرق، أي في العراق وإيران وأفغانستان وأوزبكستان الخ. وذكر أنه سيوصي بتجميد عضوية سورية في الاتحاد من أجل المتوسط.
وكان بهذا الكلام يلمح الى عتبه الكبير على الموقف الذي اتخذه الرئيس ساركوزي من مسألة العقوبات وتجميد أرصدة العديد من الشخصيات السورية بمن فيهم الرئيس بشار الأسد. والسبب – كما تزعم الدول الأوروبية – إنه قتل من مواطنيه 1300 شخص، في معرض دفاعه عن نظامه، بينما اكتفى زين العابدين بن علي وحسني مبارك بالاستقالة، حرصاً على دم الأبرياء. ومعنى هذا أن الأسد قلّد معمر القذافي، لذلك يستحق معاملة مماثلة كالمعاملة التي مارسها الحلف الأطلسي ضد النظام الليبي. علماً بأن التدخل العسكري الخارجي عجز حتى اليوم عن حسم نهاية الحرب.
ولا بد من التذكير في هذا السياق، أن مصطلح «قتل الشعب» ابتدعه خبير قانوني يهودي يدعى رفائيل لمكين عام 1944. وقد استخدم هذا المصطلح ليميز بين قتل اليهود أثناء الحرب العالمية الثانية وبين سواهم من البشر. ولما جرى التوقيع على ميثاق الأمم المتحدة عام 1948، استخدم الأعضاء هذا المصطلح المريب للنهي عن محاولات القضاء على جماعة دينية أو عرقية أو قومية أو عنصرية.
وقد تبين للمشرّعين العرب أن هذا المعيار الذي وجد خصيصاً ليهود ألمانيا النازية، لا ينطبق على المتمردين الذين يحاولون إسقاط النظام السياسي، إن كان في مصر أو ليبيا أو سورية!
ولكن أردوغان استفظع عمليات قتل المطالبين بالحرية والحقوق والمدنية، ودعا صديقه بشار الى احترام مطالب الشعب، معتبراً أنه دخل الى الحكم من أبواب الناس لا من أبواب جنرالات الجيش! وكان بهذا التلميح يشير الى القيادة المصغرة التي تضم عائلة الأسد وحلفاءه الأساسيين في الأجهزة العسكرية الأمنية.
الى جانب قادة هيئة الأركان في سلاحي الجو والبر، يعتمد الرئيس الأسد على معارضة روسيا والصين لأي تدخل عسكري في بلاده. لذلك طالبت موسكو بضرورة إعطاء النظام السوري الفرصة الزمنية المطلوبة للمباشرة في الإصلاحات، مطلع الخريف. وربما تساعدها على تمرير المرحلة الصعبة خلال هذا الصيف، بعدما قررت زيادة قطع أسطولها في قاعدة اللاذقية البحرية، الأمر الذي يقوي نفوذها في المتوسط.
بقي السؤال الأهم: هل تعطي الدول الغربية النظام السوري الفرصة الكافية لترتيب أموره مع المحتجين، أم أن استعداد المعارضة لاستئناف القتال كالمعارضة الليبية، سيقلب الموازين ويدفع الجيش الى مواصلة القمع والاعتقال؟
الولايات المتحدة قررت التعامل مع ما يجري في سورية بحذر وبطء لعل العقوبات وضغوطات الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، تردع المسؤولين عن مواصلة التحدي. وقد عزت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون هذا الموقف الى سببين مهمين: الأول – أن سورية دولة مؤثرة في محيطها، وقادرة على احتواء «حزب الله» و «حماس». وهي في الوقت ذاته، ستساعد أميركا على الخروج من العراق بأقل قدر ممكن من الأذى، إضافة الى تعاونها مع إيران لضبط الساحة اللبنانية.
ثانياً – عندما وعد الأسد بتهدئة الوضع الداخلي من طريق الانتخابات البرلمانية في آب وإكمال الإصلاحات في أيلول، سارع الى تثبيت سيطرته على لبنان بواسطة «حزب الله» وحلفائه التقليديين.
وتحتفظ الإدارة الأميركية بسبب ثالث قد يوظفه الرئيس أوباما لتجديد ولايته، أو لإقناع نتانياهو بضرورة الموافقة على الدولة الفلسطينية المزمع إعلانها في الجمعية العامة. ذلك إنها تعرف جيداً مدى الضغوط التي مورست على الرئيس الأسد من أجل فك ارتباطه مع إيران، بدءاً بالمحادثات الفاشلة مع الجنرال كولن باول… وانتهاء بالإغراءات السياسية التي قدمها الرئيس ساركوزي عندما دعاه للاحتفال بذكرى الثورة الفرنسية في تموز (يوليو) 2008.
ولم يعد أمام الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي من حل سوى العمل على تغيير النظام في سورية، والإتيان بنظام آخر يفك الارتباط مع الدولة التي نقلت نفوذها من حدود روسيا الى حدود المتوسط في لبنان وفلسطين!
* كاتب وصحافي لبناني
الحياة