الدراما العربية .. والفصل الأخير/ طيب تيزيني
في الشهر الرابع من عام 2007 ومع انتهاء أربعة أعوام على الاحتلال الأميركي للعراق، أي عام 2003، لوحظ أن البلد المذكور راح يُفصح عن نفسه أمام المراقبين والباحثين والناشطين المحليين والدوليين بصفته بؤرة عاصفة للصراعات المفتوحة، التي يأتي الصراع الطائفي في مقدمتها ومتلبساً بكل أشكال الصراع الأخرى، السياسي والتربوي والثقافي والديني خصوصاً، إضافة إلى المؤسساتي الذي يؤلف القطاعين العام والخاص، وقد أخذ هذا الوضع في التبلور والاتساع في السطح كما في العمق، ليظهر كأنه الأكثر شمولاً، إنما بصيغة تُلخص الوضع العمومي الأساسي في العراق وسوريا ولبنان تحت عنوان «الإرهاب الديني» ممثلاً بـ«داعش» وغيره من أشكاله وتجليات الواقع العربي الجديد، وهذا الوضع هو الآن أكثر حضوراً وعنفاً، بل أصبح بتعبيره «الداعشي» في أبعاد دولية تحمل مخاطر للجميع.
وقد أشرنا سابقاً إلى أن «داعش» الأصلي و«الدواعش» الأخرى تمثل في إحدى مرجعياتها حالة معقدة من حالات الظلم المركّب، خصوصاً حيث اندرج ذلك ضمن المهمات التي صارت من ضمن مشاغل ومهمات السلطات الاستبدادية في العالم العربي. وتصاعد الظلم الاقتصادي، وانتشر الفساد والإفساد بقيادة استبداد سلطوي يرفض قادته وحُماته أن يواجهوه بدرجة أو بأخرى، رغماً عن قادة الخطاب السياسي والديني والأيديولوجي الاعتقادي، لقد اكتملت تعبيرات «الحُطام»، بحيث جاء الرد صارماً وسريعاً على الجماهير المطالِبة بـ«الإصلاح والتغيير والتنوير»، جاء الرد بالرصاص القاتل، ولو فعلوا بشيء من الحكمة والتعقل، لتجنب البلد أخطر ما مر على العالم، بطريقة غير مسبوقة، رفضوا الإقرار بضرورة إنجاز حالات أولية من التغيير: لم يُدرك أن «السياسة فن الممكن.. لمصلحة البلد كله»، فأوصلوا هذا الأخير إلى الاستراتيجية التي لم تظهر أبداً في تاريخ الحروب السابقة.
الدراسات الاستراتيجية التي نمت مع تطور المجتمعات الحديثة اكتشفت أن المطالبة بكل شيء تمثل نظرياً، الوصول إلى التخلي عن كل شيء، وذلك عبر تحشيد واستفزاز العالم، من هنا، قد نكون الآن بلغنا الفصل الأخير من الدراما التي نعيشها الآن، ونحصد ثماراً عجفاء دامية، وقبل ذلك، كان الفساد والظلم والجريمة وسرقة أموال الدولة وتدمير كل بارقة إصلاح وتغيير، وتحويل مؤسسات الدولة الهزيلة إلى مواقع للأمن يفعل فيها ما يرغب، ولا نقول يفعل فيها ما يستطيع، وتبرز القوى المجتمعية التي تمثل مجموعات ينطبق عليها الشعار التالي: سارع ومارس دورك في سرقة أو سحق ما تبقى من الوطن.
الحطام التاريخي يلتهم الجميع، عدا من يقودونه، نعم كان ذلك كله يؤسس لنفسه بحماية كثيفة «قانونية»: القضاء هو هنا عنوان الفساد والإجرام والتهام الناس بصفتهم عبيداً، ومن المهم تسجيل الملاحظة التالية: إن كل الأعمال الإجرامية التي أسست حقاً لما ليس له سبيل من عبودية الموت، لم تستطع حتى الآن أن تؤسس لها جذوراً في حياة الناس، بعكس ذلك، يلاحظ تيار هائل يتصاعد مُعلناً أن الموت الذي يصيب الشباب والنساء والأطفال والكبار، هو نمط من الحياة المفعمة بالحياة والحرية، التي تمثل هدف أهل البلاد.
ها هنا نضع يدنا على ثنائية «الوعي والواقع»، وعي جديد يترسخ في واقع هو – في حياة الجميع – آيل للتحول إلى تسونامي يؤسس لانتفاضة ثورية، هي ما نعيش، ولعلنا نرى أن هذا التحول لم يظهر في التاريخ العربي مثيل له. وفي هذا السياق نشير إلى أن ظهور «داعش» إنما هو حالة جديدة فريد، فأن يتحول الشعب العربي إلى قوة جبروتية في وجه «داعش»، ومَن يقف وراءه تصنيعاً وتضخيماً وتحويلاً إلى عملاق لا يُقهر، إنما هذا أصبح الآن صيغة من قانونية مجتمعية تماثل قانونية سقوط المطر والشمس: الخطف إلى الموت، أو دفع الملايين ماذا؟ أن تعلن أن الكون ينقاد إلى إرادة من يسعى إلى تفكيكه، إن هذا وذاك وغيرهما أعلنوا سقوط «داعش» ومن أنتجه ومنحه صيغة من الحياة، أمر نلاحظه في عيون الأطفال وأمهاتهم وآبائهم.
نعم، نحن لا نفتئت على أحد، إذا قلنا إن الشعب العراقي والآخر السوري هما ذاك الطائر الذي يموت ليحيا وسينهزم «داعش» وأمثاله، والمفاجأة أن الكثيرين من أفراده سيكتشفون أنهم أخطأوا الطريق.
الاتحاد