الدعوة إلى ترك المساومة… خروج على السياسة والديموقراطية/ ديفيد بروكس
نعيش في مجتمع واسع ومتنوع. وثمة سبيلان الى حفظ الأمن والاستقرار في مثل هذا المجتمع: السياسة أو نوع من الديكتاتورية والاستبداد، اي إما المساومة السياسية وإما توسل القوة العنيفة. واختار الآباء المؤسسون في الولايات المتحدة المساومة. هذه دائرة نشاطات يقر المرء فيها بتنوع المجموعات والمصالح والآراء، ويسعى الى الموازنة بينها (المصالح والآراء) أو مد الجسور أو المساومة بين هذه المصالح أو بين شطر راجح منها، على الاقل. فيسير على هدي مجموعة قواعد راسخة في دستور أو أعراف، للمساهمة في إبرام المساومة والتسوية على وجه يُجمع على مشروعيته. ولكن السياسة لا تمنح الناس كل ما يرغبون فيه على وجه التمام. فهي عالم فوضوي ومحدود. والسياسة هي خطوات مضطربة وتُلزم الناس الصدوع بقيود والموافقة على اقل مما يصبون اليه. والخيبة ملازمة لعالم السياسة وهي النتيجة المنتظرة.
وهذا هو الوجه السلبي من السياسة، ولكنه كذلك وجهها المضيء والجميل. فهو يقتضي مناقشات لا تنتهي ويتعرف فيها المرء على الآخرين ويرى الامور من وجهتهم ويسعى الى الموازنة بين حاجاتهم وحاجات فريقه. والسياسة هي حل أمثل من العنف، أي من حاكم مستبد يحكم من طريق اطاحة كل من يقف في وجهه وإلحاق الهزيمة به. وهي على قول برنارد كريك في كتابه «الدفاع عن السياسة» : «طريقة حكم مجتمع منقسم على نفسه من غير عنف مرسل».
معاداة السياسة
وفي الجيل الاخير، برزت مجموعات من الناس تناوئ السياسة وتعارضها – وة»حزب الشاي» («تي بارتي») هو خير مثل عليها على رغم انها (المجموعات هذه) ليست حكراً على اليمين فحسب – وترغب في انتخاب من لا عهد له بالسياسة. فهي تطالب بتسليم دفة السياسة الى «دخلاء عليها» ومن هم خارج عالمها، وتنفي مشروعية المساومة وإبرام اتفاق. وهذه المجموعات لن تتوانى عن اطاحة الاعراف والنظم التي تسبغ المشروعية على آلية اتخاذ القرار، إذا ساهمت (الاطاحة) في بلوغهم سدة السلطة.
ولا شك في ان مثل هؤلاء لا يعترفون بحقوق غيرهم. فهم يعانون من ضرب من ضروب نرجسية سياسية، فلا يقبلون مشروعية مصالح غيرهم وآرائهم، ولا القيود. فجل ما يبغونه هو انتصارات كاملة لنفسهم وعقيدتهم. وهذا ميل الى معاداة السياسة أو الى ما هو خلاف السياسة. والافتقار الى الكفاءة السياسية يصيب الحكومة بالفشل، فيتفاقم الاستياء منها ويتعاظم الطلب على (انتخاب) «الدخلاء».
ولا يصدع معادو السياسة بأنها محدودة وترتضي القيود وتقتضيها، وديدنهم هو المغالاة في وعود تؤجج توقعات ضعيفة الصلة بالواقع. وحين تخيب هذه التوقعات، يتفاقم ميل الناخبين الى ترك المبادئ والقيم المشتركة، إذ يشعرون بالقرف والاستياء، الى معاداة السياسة. ويرفضون التسوية او المساومة ويعرقلون العملية التشريعية. وغياب الانجازات يبدد ثقة العامة، فيتعذر ابرام الاتفاقات.
واليوم، في اميركا يرفض مجلس الشيوخ الانعقاد للتداول في اسماء المرشحين الى المحكمة العليا، خلافاً للاعراف والدستور. ولم نبلغ بعد مرحلة يخشى فيها السياسيون المساومة والتشريع، ولا مرحلة القطيعة في المناقشة السياسية.
ولكن الناس يشعرون ان صوتهم لا يسمع ولا يعتد به، لذا، يعلو صوتهم فيشوشون النقاش ويساهمون في الاطاحة به. ويرى اميركيون كثر ان دونالد ترامب هو مرشح غير تقليدي و(انتخابه) فرصة تشرع الابواب على الخروج من السياسة على ما نعرفها الى سياسة أجدى. وهذا غير صحيح ويجافي الصواب. فترامب هو خلاصة نزعات وميول برزت في العقود الثلاثة الماضية: الرغبة في الدخلاء؛ وخطاب يرفع لواء توجيه ضربات قاسية وقاصمة ويطيح النقاش؛ وأفول احزاب سياسية متماسكة وتقهقر مكانة السياسات؛ والنزعة الى معارك ثقافية وحروب هويات من طريق «أسلحة» سياسية. وترامب يسلك مساراً لفظه الآباء المؤسسون.
وتلوح لائحة العنف في حملته، وفي بعض الاحيان لسان حاله هو «أريد لكْم وجه (فلان)». وطبعتُ نسخة من شتائم ترامب جمعتها «تايمز» من تويتر، فبلغ عدد صفحاتها 33 صفحة، وأبرز ما فيها ان من يعارضه غبي أو فاشل او أحمق. وأنصار ترامب لا يســـعون الى عملية ســياسية تنزل على حاجاتهم، بل عن بطل خارق. وظاهرة مناوأة الســياسة ليست اميركية فحسب. فالســــياسة تنحسر ومد الاستبداد يتعاظم في العالم. وأمثل رد على ترامب هو السياسة، والإقرار بأن الآخرين المختلفين في الرأي أحياء يرزقون. و»يجب ارساء الإجماع على أن الخلاف هو ركن دولتنا… (والسبيل الى) بلوغ أعمق اشكال التناغم»، على قول المنظر السياسي والكاتب والخبير الاقتصادي، هارولد لاسكي (1893-1950).
* صحافي، معلق، عن «نيويورك تايمز» الاميركية، 26/2/2016، إعداد منال نحاس
الحياة