الدم لا يُهزم
مؤيد اسكيف
منذ الأيام الأولى لإندلاع الثورة السورية و نظام الأسد يحرص على تأطيرها على أنها جزء من حرب سياسية موجهة من قبل خصم أو خصوم سياسية اسمها المعارضة , و أن هذه المعارضة ما هي إلا لعبة بيد المؤامرة الكونية الموجهة ضده , و يندرج هذا الحرص الذي يتم استخدامه في مجمل الخطاب الإعلامي و السياسي التعبوي الموجه من قبل النظام لتقزيم الثورة , و جعلها حراكا سياسيا عاديا , بحيث يكون هناك شارعا مقابل شارع آخر , و معارضة مقابل موالاة , فيغدو النظام في مأمن من الإسقاط , باعتباره طرفا سياسيا حاكما , و ضمن هذا العمل التقزيمي للثورة و العمل على تشكيل ثورة مضادة من المرفهين ضد المهمشين و المفقرين و الجياع .. كان يريد النظام الاعتراف بوجود معارضة , بل هذا هو تحديدا ما حصل رغم علم النظام جيدا بأن قوى المعارضة السورية مجتمعة لا يوجد لديها ” موانة ” على متظاهر واحد في الشارع .. إن هذا الاستغباء ما هو إلا جزء من استحمار أكبر يقوم به النظام و مؤيديه .. فالواقع أن المعارضة السياسية لا علاقة لها بالثورة ولا بحراكها و لا حتى بيومياتها حتى أن قسما كبيرا من المعارضة و شخصياتها التي لا ننكر دورها في وقت سابق أتخذت موقفا يمكن وصفه بالعدائي من الثورة , في الوقت الذي كانت فيه بقية القوى الأخرى عبئا حقيقيا على الثورة و الشارع , و كلنا نعلم تأخرها في مواكبة الحدث و حركة الشارع عموما , و هذا ما نلحظه حتى اللحظة , حيث أنها كانت ولا زالت غير
قادرة على الإرتقاء بمستوى أدائها بمستوى التحدي و النضال الذي يقوم به الشارع ..
من السذاجة بمكان أن نصف ابراهيم القاشوش الشهيد و أمثاله الكثر بأنهم معارضين سياسيين , و حيث أن هؤلاء جزء من الشارع العادي الذي يعيش يومياته على هوامش المدن و الحياة فإنهم تواقين للحرية و نيلها , لتحقيق العدالة , و التخلص من مساومة شرطي المرور و المناورة مع الموظف الحكومي , و تقديم الأعطيات للضباط و المسؤولين .. و إذا كان ابن الشارع العادي لا يمكنه التعبير عن مصطلحات مثل العدالة الاجتماعية و دولة القانون و المؤسسات و تكريس المجتمع المدني فهذا لأن المثقف السوري انكفأ على نفسه أولاً , و لأن التعبير عن المطالب بصورة مصطلحات أكاديمية متثاقفة ليست وظيفة الثورة ثانياً , و ربما هذا الأمر تحديدا جعل من ثورتنا ثورةً وطنية خالصة , لأن وقودها من رحم الشارع السوري , و لأن المطالب عابرة للإيدولوجيا و الصراعات السياسية المحلية , و منذ أحداث درعا كانت مطالب الثورة وطنية خالصة دون أي مواربة رغم محلية الأحداث و محلية الدم ..
إن هذا الشرح بديهي للغاية و لكن إعادة التذكير به للكف عن وصف خالد أبو صلاح على سبيل المثال بالمعارض السياسي , و ذلك لاعتبارات عديدة منها أن السياسي ليس مضطرا للمغامرة بحياته و حياة عائلته .. و هذا ما ينطبق على الملايين من الشارع الثائر ..
و لأن ما تطلبه بعض القوى الدولية من ضرورة حوار المعارضة مع النظام غير معقول .. و ساذج .. حيث أن هناك ظن خاطئ في أن المعارضة لو دخلت في حوار مع النظام فإن الشارع سوف ينصاع لها و تتوقف الثورة , و تدخل الأمور ضمن قنواتها السياسية إلا أن النظام تحديداً يعلم علم اليقين بأن حواره مع المعارضة لن يجدي نفعاً , لأن هذه المعارضة لا سلطة لها على أي متظاهر سوري بعد أن وقف متحديا الآلة العسكرية و لا يزال .. مطالبا بإسقاط النظام و المطالبة و بمحاكمة بشار الأسد و إعدامه ..
من جهة أخرى .. يخطئ من يقول بأن النظام لم يتعلم الدرس من ليبيا و مصر و تونس و اليمن و على الرغم من حماقته , إلا أن رهانه منذ البداية كان على استخدام القوة مرة ً , و استخدام المزيد من القوة مرات عدة , مستفيدا من وضع دولي معقد بالأساس فيما يخص سوريا الجغرافية و سوريا السياسية , في حين أن آل الأسد و كامل منظومة الحكم على يقين تام بأن أي حياة أخرى في غير القصر الجمهوري سوف تكون قبرا مظلما , و هذا ما يدفع بهم للقتال حتى آخر قطرة دم لأجل الاستمرار في الحكم مستفيدين من تعقيد المشهد الداخلي , و الذي تم العمل عليه طيلة عقود ..
ما يتم تسميته خطأ الحل الأمني و الذي يقصد به الخيار العسكري كان الحل الوحيد أمام النظام حيث أن أي عملية حوار أو تفاوض أو تغيير ديموقراطي في ظل تسونامي الربيع على الجمهوريات العربية يعني النهاية , و أن أي تنازل سياسي سوف يقود إلى سلسلة تنازلات أخرى و بالتالي فإن الأمر يقود إلى النهاية أيضا .. فاستخدم في حربه ضد الشعب إضافة إلى الآلة العسكرية ضخا إعلاميا و خطابا موتوراً أراد من خلاله أن يصور نفسه على أنه ضحية يقوم بالدفاع عن نفسه , و المتتبع لخطابه و سلوكه يمسك بخيوط لعبته الطائفية و غرف عملياته القذرة التي أرادت أن ترهن أمن الشعب بيده كأي مجرم يعتقد أن استمرار الرهينة على قيد الحياة منة منه و دليل على أنه حاميا للأقليات بشكل خاص و هذا ما يرشح عن أنه حامية و ليس نظاما وطنياً ..
لكن الحماقة الواضحة في معركة النظام من البداية هو تحوله من حالة مافيوية تتستر وراء شركات تجارية مهيمنة تحت إدارة أمنية رعناء إلى عصابة عسكرية فاضحة اختارت إعلان الحرب على الشعب في غياب تام لفهم التاريخ و حركة الشعوب و القاعدة التي تقول بأن الشعوب لا تهزم .. بل تنتصر دوما ..و أن الدم لا يمكن أن يهزم و هو العامل الأكثر هيمنةً في هوية أي مجتمع و هو الحقيقة الأكثر سطوعاً في وجدان أي أمة , و أن هذا الشعب اختار طريقه و حدد هدفه و سوف ينجح مهما كان الثمن و مهما استغرق الزمن ..
من هنا تأتي هزيمة النظام حيث صار في ذاكرة الشعب عبارة عن قوة محتلة تغتصب الحكم على ظهر دبابة روسية و مؤخرا على إصبع فيتو روسي ..
إن ما نشهده في سوريا الآن ما هي إلا تفاصيل التفاصيل التي لا تقود في النهاية إلا إلى الخلاصات , و مثل هذه الخلاصات يمكن استنتاجها من عزيمة هذا الشعب الثائر و إصراره رغم سيل الدماء و الأوجاع .. وما يقال عن أن الثورة انحرفت عن مسارها غير صحيح بتاتا .. ففي الثورة لا يمكن أن نقيس الأمور بمقياس الصح و الخطأ بل إن المعطيات الآنية هي التي تفرض نفسها .. الثورة .. فقط تقوم بحماية نفسها .. المزايدون و المغالون و المتطرفون و خاصة السياسيون هم من تنحرف بوصلتهم .. هم لا بوصلة لديهم بالأساس.. أما الثورة فهي ماضية نحو بوصلتها .. مهما بلغ الثمن و مهما طال الزمن ..
بعد سنوات .. سوف يقرأ أطفالنا في كتاب التاريخ السوري , أنه مر على حكم سوريا دكتاتوراً اسمه حافظ الأسد فقتل نحو اربعين ألفا , و خلفه ابنه الذي لم يركب وسيلة نقل عامة يوماً , و لم يقف على الدور لشراء الخبز , و لم يساوم شرطي مرور , فقتل مثل ذلك الرقم و ربما أكثر و من ثم تمكن الشعب السوري من التخلص من حكمهما إلى الأبد ..
صحفي و ناشط سوري*