“الدولة الإسلامية” صورتنا في المرآة/ موريس عايق
يتمثل أحد أسباب جاذبية «الدولة الإسلامية» في تحقيقها للشعارات التي طالما نادت بها الإيديولوجيات العربية الأساسية في شُعبها الثلاث، اليسار بتنويعاته والقومية العربية والإسلام السياسي، وبما يتجاوز انجازات كل الحركات السياسية العربية السابقة.
فالدولة الإسلامية تعبير عن مناهضة النظام العالمي ومقاومته في شكل لا يقبل أي تسوية، فلا تكتفي وحسب بممانعته بل تخوض ضده مواجهة كاملة وجذرية. جذرية استدعت تحالف دول هذا النظام ومؤسساته لمحاربة «الدولة الإسلامية» بالحديد والنار، فاجتمع المتخاصمون في كل مجال آخر من مجالات السياسة على قتالها، الأميركيون مع الإيرانيين، والروس مع الأوروبيين. ربما لم تكن هناك سابقة لتحالف بمثل هذه السعة في مواجهة حركة راديكالية تسعى الى تقويض النظام العالمي سوى التدخل الدولي ضد الثورة الروسية عام 1917. مقارعة «الدولة الإسلامية» لهذا النظام مبدئية ولا تخضع لحسابات السياسة الانتهازية أو خداعها، فهي لا تدعي مقاومة الطاغوت وفي الوقت ذاته تقاتل تحت رايته في أفغانستان والعراق.
لطالما نادت الحركات القومية العربية بإسقاط «سايكس بيكو» والدول القطرية باعتبارها كيانات مصطنعة رسمتها الإرادة الاستعمارية وفرضتها على شعوب المنطقة. وعلى عكس المرتجى، لم يؤدِ حكم الأنظمة القومية العربية كـ «البعث» في سورية والعراق إلى إسقاط «سايكس بيكو» وتوحيد الشعب العربي في دولة الوحدة، بل زاد في الفرقة والتمزق، فعوضاً عن مجرد حدود تفصل سورية والعراق كانت لدينا قطيعة بينهما بعمر حكم «البعث» في البلدين كليهما.
في المقابل فعلت «الدولة الإسلامية» وفي ظرف سنواتها القليلة ما لم يفعله الأوائل، فأزالت الحدود وحطمت «سايكس بيكو»، فصار المرء في الأراضي الخاضعة لسلطانها يتحرك من العراق إلى سورية وكأنه في بلد واحد. في مواجهة الإسقاط العملي لـ «سايكس بيكو» نرى القوميين العرب في سورية مثلاً يتنادون للحفاظ على الوطن، والذي لم يكن إلا اختراعاً استعمارياً رُسم بقلم الرصاص. فهاجم البعثيون في سورية المقاتلين الأجانب مثل التوانسة، وهم عرب يحاربون في أرض وطنهم العربي الكبير سابقاً كما يُفترض، وإن تغاضوا عن أجانب آخرين فتحوا لهم الحدود طالما أنهم يحاربون لأجل عروشهم.
أخيراً استعادت «الدولة الإسلامية» حلمـــاً قديماً، لطالما راود المخيلة الســـياسية العربية وهو حلم الخلافة منذ أن ألغـاها أتاتورك في 1924. خلافة إسلامية تقيم الــعدل وتعيد مجد الإسلام وعزته، وتجمع كلمة المسلمين في مواجهة الكفار والمستعمرين، وتقيم شرع الله في أرضه.
مقاومة النظام العالمي/الاستعماري وإسقاط «سايكس بيكو» وإقامة الخلافة الإسلامية شكلت كامل طيف المخيلة السياسية العربية، وقد تحققت جميعها مع «الدولة الإسلامية» وبنجاعة لن نجدها لدى أي حركة سياسية عربية أخرى في كل تاريخنا السياسي الحديث.
قد يقول أحدهم إن «الدولة الإسلامية» هي تجسيد مشوه ومفزع لهذه الشعارات، وهي كذلك، وأن الهدف لم يكن بهذا الشكل. هذا الاعتراض يفترض وجود قيم وأحلام تقبع خلف هذه الشعارات وتعطيها معناها، لكن ما أن ننظر إلى نقد «الدولة الإسلامية» من طرف الحركات السياسية كما إلى ممارساتها الخاصة فإننا لن نقع على أثر لمثل هذه القيم.
إن تجاوزنا الانتهازية التي وسمت انتقادات حركات سياسية معينة، كما في حالة «البعث»، وهي انتهازية تجد أصولها في العلاقة بين ممارسة هذه الحركات وأهدافها المعلنة، فإن الاعتراضات التي سيقت ضد «الدولة الإسلامية» لا تحيل إلى فهم مغاير وأكثر إنسانية لهذه الشعارات. على سبيل المثال، يوم أعلن تنظيم «الدولة الإسلامية» الخلافة اعترضت الفصائل الإسلامية المقاتلة في سورية ومعظم الحركات الإسلامية. غير أن اعتراضاتها، وأشهرها «غياب التمكين» كسبب لرفض تحكـــيم الشريعة وإعلان الخلافة، كانت ذات طبيعة ظرفية صرفة وليست مبدئية، ويخـــلص المرء من هذه الاعتراضات إلى أن المشكـــلة لا تكمن في المبدأ بذاته إنما في الظـــرف الذي يحكم تطبيقه. وعند مغادرة البيـــت الجهادي فإن التهمة الموجهة لأنصار «الدولة الإسلامية» هي كونهم خوارج، وهي تعني الخروج على الحاكم (والأمة تُحمل دوماً على الحاكم)، أما التفاصيل الفقهية فلا تعني أحداً مثل تكفير مرتكب الكبيرة، وهو ما يرفضه أنصار «الدولة الإسلامية» أنفسهم. وفي بلادنا، حيث الحاكم الظالم المتجبر، فإن تهمة الخروج تبدو مدحاً لا ذماً، مما مكن أنصار «الدولة الإسلامية» من الرد على مطلقيها بأنهم فقهاء السلطان.
تكمن المشكلة في جعل الوسائل غايات بذاتها وتناسي أنها مجرد وسائل، فمقاومة النظام العالمي كانت لظلمه ومن أجل تحقيق نظام عادل، لكن عوضاً عن الاهتمام بالعدل تم تقديس المقاومة والممانعة بذاتهما وإغفال العدل. رُفض التقسيم والدول المصطنعة لعدم توافقها مع إرادة الشعب وتاريخه، لكنْ في الممارسة أصبحت الهوية القومية وتحقيق الوحدة وسيلة لقمع الشعب الفعلي وسلبه حريته. أما تنوع الشعب الواقعي فتم إلغاؤه ومصادرته باسم هوية قومية بعيدة، وإن لم تمانع الأنظمة في تحويل التنوع إلى انقسام واستخدامه أداتياً بغرض الحفاظ على سلطتها. والحال ذاتها كانت مع إقامة حكم الله والذي مقصده هو تحقيق العدل، فصار مختزلاً بالحدود من دون الاهتمام بالبعد الأخلاقي الذي تفترضه الشريعة أو مجاهدة النفس وتربيتها.
لم يعد مهماً لماذا نحارب الاستعمار، بل صارت محاربته هي المهمة والتي تتطلب السكوت عن كل شيء آخر. لم يعد مهماً الغرض من شرع الله، بل صار قطع اليد والجلد هو المهم. لم يعد مهماً لماذا نرفض التقسيم، ولكن صار من الممكن التذرع بالمؤامرة الاستعمارية في مواجهة أي احتجاج.
اهتمت الحركات السياسية العربية، سواء كانت يسارية أو قومية أو إسلامية، في لحظة تأسيسها في النصف الأول من القرن الماضي، بالقيم الأساسية التي تناضل من أجلها من حرية وعدل ومساواة وتحرر، غير أنها ومع تبنيها للانقلابات العسكرية (أو الأصح تبني الانقلابيين لها) تخلت عن قيمها وتحولت إلى أيديولوجيا تبرير للسلطة، فتبوأت شعارات المقاومة والحرب الواجهة وأسكتت كل صوت إذ «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة». لم تعد التيارات السياسية العربية تهتم بتطوير آرائها ونظرياتها بصدد القيم الأصلية الكامنة خلف مناهضة النظام العالمي أو الدعوة للوحدة أو تحقيق شرع الله، وفي المقابل فإنها جعلت من الوسائل شعارات وغايات بذاتها ترفعها في وجه كل من يعترض عليها.
«الدولة الإسلامية» هي تتويج لهذا المسار الانحداري، وقامت خير قيام بكل ما رفعته الحركات السياسية العربية من شعارات، فحاربت النظام العالمي وأسقطت «سايكس بيكو» وطبقت الشريعة. هي صورة مشوهة ومرعبة ولكنها صورتنا، وهذا أول ما يتوجب علينا الاعتراف به.
* كاتب سوري
الحياة