الديالكتيك المخادِع في سوريا/ جهاد الزين
يبدو أن مجرى التاريخ أكثر ديالكتيكية مما نعتقد. الديالكتيكية التي تجبل الوقائعَ وتغيِّرها ليس فقط بما لم تكن عليه بل أساساً تجعلها بما لا ينبغي أن تكون عليه. هذه الفكرة تراود المراقبَ وهو يسأل هل يمكن نجاح عملية تحوّل وتحويلِ بعض مشتقّات منظمةِ “القاعدة”، الشيطانيةِ التاريخِ الحديثِ من تدمير برجيْ نيويورك إلى تدمير تمثال بوذا وكلها أبراج شاهقة في الحضارة الإنسانية، إلى ممثِّلة مقبولة في بعض ساحات الصراع وتحت مسمَّيات مختلفة؟
مشروع التحوّل هذا ربما هو حاليّاً في أحد مهازله المدهشة ولكنْ التي تصنع فصلاً جديدا من فصول الإسلام السياسي المعاصر بعد انتقاله إلى التوحّش الأقصى… الأقصى لأنه آن الأوان للقول إن هذا التيّار منذ ولادته في القرن العشرين حمل مسحةً متوحّشةً ما. وسببُ هذا التوحّش التكويني هو أن استخدام الدين في السياسة في العصور الحديثة يتناقض مع منطق هذه العصور الحديثة، لا سيما الأصولية الدينية التي تنتمي إلى أهل حضارة، كبيرة في العصور القديمة ولكنّها خاسرة ودونية في هذه العصور الحديثة، هم المسلمون بكل مذاهبهم وطبقاتهم وبناهم السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية بل بكل أفكارهم الدينيّة وغير الدينيّة.
لكلِّ “أعجوبة” مكان… حتى في الأساطير التوراتيّة وملحقاتها هناك مكان تتحقّق فيه الأعجوبة: في أعجوبة تحويل بعض مشتقّات “القاعدة” إلى قوّة “اعتدال” في سوريا. سوريا الجنرال غورو وسوريا أخصام ورثة الجنرال غورو ابرهيم هنانو وجميل مردم وشكري القوتلي، وسوريا أخصامُ أخصامِ ورثة الجنرال غورو حسني الزعيم وأديب الشيشكلي وجمال عبد الناصر وحافظ الأسد… في هذه الأعجوبة الجارية في منتصف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين عنوان التحوّل والتحويل هو “جبهة النصرة”. للتذكير… قبل ذلك جرت محاولة في هذا الاتجاه في أفغانستان عبر “حركة طالبان” ولا تزال. أفغانستان التي كانت سوريا الجهاديين في الثمانينات من القرن العشرين وسوريا التي أصبحت أفغانستان الجهاديّين في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين.
الملاحظ أن “جبهة النصرة” التي راقبت العملية ودخلت فيها تبدو واثقةً من موقعها إلى حدّ أنها “تَغَنَّجَتْ” على المخرَج (والمخرِج) الرئيسي الذي يُحضَّر لعملية التحويل وهو إعلان “فكِّ ارتباطِها” عن “القاعدة”…. “جبهة النصرة” رفضت هذا المخرَج وأكّدت على التحاقها بـ”القاعدة” مما يعني ثقتها بأن ذلك لن يؤثِّر على أوراقها التحالفيّة المعلنة مع بعض الدول وغير المعلنة مع إسرائيل تاركةً الآخرين منشغلين بسبب أهدافهم الكبيرة بترتيب تبرير اعتمادها كقوة قتال أساسية بل الأساسيّة للنظام السوري.
على أي حال، هذه اللعبة الواقعية ساهم فيها النظام السوري قبل أن يصبح، ودون أن يتوقّع أنه سيصبح “ضحيَّتَها” لاحقاً، عندما دَعَمَ “القاعدة” في وجه الوجود الأميركي في العراق بعد العام 2003 وساهم في تعزيز نفوذها لدى العشائر السنّيّة إلى أن نجح التخطيط الأميركي عام 2006 في شق هذه العشائر عن “القاعدة” وعزلها داخل البيئة السنّية العراقيّة من جهة وتوجيه زخمها الصراعي ضد البيئة الشيعية في بغداد والجنوب من جهةٍ أخرى، مِمّا خفّف الضغط عن القوات الأميركية يومها. وهذا هو جوهر استراتيجيّة ما سُمِّي “الجراحة” العراقية خلال ولاية الرئيس جورج دبليو بوش الثانية.
اليوم ومع ما سمّاه الباحث المرموق في الإسلاميّات جيل كيبل “الجيل الثالث من الجهاديّين” تُطرح عملية تحويل النظرة إلى بعض مشتقّات هذه التنظيمات من مجرّد عصابات تكفيرية قاتلة، إلى قوى ذات “شرعية” شعبية في سوريا وليبيا. في سوريا حتى الآن اللعبة عربية وتركية أكثر منها دولية، أما في ليبيا فتبدو دولية وإقليمية في ظل الرفض الأميركي لدور مصري أوسع وأفعل هناك. وبانتظار أن يتضح مفهوم دعم تسليح وتدريب “القوى المعتدلة” في سوريا الذي قرّرتْه الإدارة الأميركيّة فلا تزال “داعش” في الظاهر خارج هذه اللعبة الآن بل هي مبرّرها المسرحي من حيث أنها تمثّل أقصى التوحّش الأصولي الإسلامي. فـ”القاعدة” بالنتيجة بنت الجيل الثاني أما “داعش” فهي “جوهرة تاج” الأجيال الإرهابية المعاصرة كلها. الزبدة الأكثر فضائحيّةً ووقاحةً وانتهاكاً في كل الحركات الأصوليّة المعاصرة.
روبرت فورد السفير الأميركي السابق في سوريا والذي واكب طويلا كل شخصيات المعارضة المدنية والمستقيل مؤخّراً من السلك الديبلوماسي كتب في مجلة “فورين بوليسي” أن على واشنطن أن تضع شروطاً صارمةً على أي فصيل معارض سوري سيستفيد من برنامج التدريب العسكري بينها الالتزام الثابت بأوامر “قيادة موحّدة” للقوات المدرّبة وقطع أي اتصال بـ”جبهة النصرة” و”القاعدة” وطبعاً “داعش”. هذا يعني أن اللعبة المعلنة لا تحظى حتى الآن بموافقة أميركية، أي “تأهيل” جبهة النصرة بينما هذا التأهيل جارٍ حثيثاً في الحسابات والخطط التركيّة وبعض العربيّة بسبب ضغط الوقت الذي يسبّبه التقدم الإيراني في العراق واليمن وتقدم النظام في سوريا عبر كل أشكال الاستخدام الواقعي للتناقضات الفئويّة وهو ما ردّت عليه تركيا مبكرا بدعمها المكشوف لصعود “داعش” وما تجد نفسها أطرافٌ عربيّةٌ عائدةً إليه في علاقاتها مع “النصرة” الفصيل المسلح المعارض الأكبر في القتال ضد النظام.
هل يمكن أن يُمحى هذا التوحش في العملية السياسية الصراعية الضخمة دوليّاً وإقليميّاً والجارفة معها لكل العصبيّات المحلّيّة ليحل مكانه تطبيعٌ اعتدالي يناسب اللعبة الدولية أو يعبّر عن تفوّق القوى الغربية في هذا الصراع؟
التاريخ، من زاوية الديالكتيك، هو صناعة “اللاينبغي”. وبين الإسلامات الأصولية من محمد بن عبد الوهاب إلى حسن البنا إلى سيد قطب إلى روح الله الخميني يتقدّم التاريخ حتما “لكن من ناحيته الخطأ” كما كتب كارل ماركس، ومعيارنا نحن العرب لـ”الناحية الخطأ” هو أن مجتمعاتنا ودولنا اليوم فئتان: منهارة أو مهدَّدة بالانهيار.
* * *
لم يكن مشهد تدمير التماثيل في متحف الموصل معبّرا فقط عن انهيار الكيان الوطني العراقي، وقد كتبتُ ذلك سابقاً حين أشرتُ إلى تلازم ثنائيّة المتحف – الوطن، بل أساسا، وهو ما أضيفه الآن، كان تدميرا لنا كأفراد. فكل تمثال لبشر قدماء كان “فردا” بحد ذاته والرمزية فيه ليست فرادته الفنية فقط بل فرادته الفردية أيضا. كل حيوان هذّبته حضارة عريقة فمثّلَتْهُ في تمثال كان يعبّر عن الجزء الراقي من بشر المنطقة لا المتوحّش. إنها الثيران المحطّمة الراقية وليس “البشر” الداعشيّين ولو أنهم هوليووديّون. لحظة تدمير مصوّرة كان يختلط فيها الماضي العظيم بالمستقبل الضائع وبينهما الحاضر المدمّر.
لكن الديالكتيك يمكن أن يكون مخادعا أو “زعبرجيّاً” باللغة العامية. فمن قراءة العديد من التعليقات الغربية على ما فعلته “داعش” في متحف الموصل وأمكنة أخرى، أو ما أوحت أنها فعلَتْهُ، يخرج المراقب بانطباع أن سرقة المافيات الدولية للآثار العظيمة هي الطريقة الوحيدة لإنقاذها من التدمير. إذن جعَلَتنا “داعش” نطالب بنهب آثارنا لإنقاذها ونقلها لنراها في متاحف العواصم الكبرى لاحقاً. فالوضع سيئ إلى درجة أن سرقة الآثار تعني اليوم إنقاذَها في الصحافة الغربية!!!
ومرة أخرى لا فارق بين انهيار دولنا ومجتمعاتنا وبين انهيار متاحفنا.
النهار