الدين والسياسة… تلك الخلطة القاتلةفي مراجعة سريعة للتشكيلات السياسية/ مصطفى كركوتي
على مدى قرن، يلاحظ أن جميع الحركات الدينية تقريباً فشلت فشلاً ذريعاً في حمل برامجها إلى نهاياتها عند مواجهتها تحديات سياسية محلية وطنية ذات طابع زمني. في الواقع هكذا كان حال هذه الحركات عبر التاريخ الحديث. حتى الثورة الايرانية التي انطلقت مرتكزة على ائتلاف عريض لجميع قوى المعارضة، بما في ذلك الحزب الشيوعي، قبل استئثار ثقافة «ولاية الفقيه» بقيادة الراحل آية الله الخميني بها، لم تقدم أي إنجاز يعتد به في المنطقة، ربما ما عدا إعادة إنتاج صيغة «حزب الله» الراهنة.
مناسبة هذا الكلام الأعمال المتوحشة لتنظيم «الدولة الاسلامية» (داعش) المتطرف، غير المسبوق في ضيق أفقه الداعي لإقامة نظام «الخلافة» الذي انهار آخر أشكاله مع نهاية الامبراطورية العثمانية. وعلى رغم الافتراض الصعب أن يصبح لهذا التنظيم دولة ما، فمصير هذه الدولة المحتوم هو الفشل. فهو سيبرهن عن عجزه عن ممارسة الحكم لمدة معتبرة، تماماً مثلما حدث للتنظيم الاسلامي الأكثر إعتدالاً في مصر، جماعة الإخوان المسلمين.
فقد بيَّنت التجربة أن السبيل للحكم الناجح لا يقوم على خلط الدين بالسياسة أو العكس، ناهيك بأنه غير عملي وغير قابل للاستمرار.
وعلى رغم الإجماع العام على مستوى الحكومات والأحزاب والشعوب على الطبيعة الارهابية لـ «الدولة الاسلامية»، فالمرعب أن تعلن «الجماعة» في مصر والأردن وليبيا واليمن وسورية في إطار إدانتها الحملة العالمية ضده، تأييدها له. فهذه الخطوة سترتد في المستقبل على «الجماعة» وبعض قياداتها في ضوء التوحش غير المسبوق لـ «الدولة». وفشل «الجماعة» الأخير في أن تبقى على رأس الحكم في مصر، على رغم نجاحها الملحوظ في أول انتخابات ديموقراطية حرة، مفعم بالخيبة وقصر النظر السياسي. فعلى رغم إدعاء «الجماعة» المستمر دعم مبادئ الديموقراطية، فإنها لم تُعِدْ النظر في شعاراتها المعلنة منذ تأسيسها فحسب، بل أكدت عليها مراراً وتكراراً سيما هدفها الرئيس في تأسيس دولة تحكمها قوانين الشريعة. ولم يتردد قادة «الجماعة» في الإعلان عن هذه السياسة في غير مناسبة عامة في ميدان التحرير، غير مكترثين بمشاعر غير المسلمين وطيف واسع من المسلمين والعلمانيين. فالشعار الذي ساد وعلا وكُتب على يافطات عدة طوال فترة الحملة السياسية لـ «الجماعة» في ميدان التحرير كان: «الإسلام هو الحل».
«الجماعة» لم تكتف بذلك، بل ذهبت أبعد بدعوتها إلى خشبة المسرح الرئيسة في ميدان التحرير في أحد أيام 2012 أبرز دعاتها يوسف القرضاوي المقيم في الدوحة، كي يخاطب المتظاهرين في الميدان. ولم يقدم القرضاوي عناوين أو ملامح لبرنامج إقتصادي/إجتماعي لمصر المستقبل، بل ركز على الجانب الديني بتوجيه النصح للجمهور «باتباع الطريق السوي… السبيل إلى الله». وطمأن الجمهور بأن مصر «عادت الآن إلى طريق الله» ودعاه أيضاً إلى «العودة إلى الله». صحيح أن الخطاب كان يُنقل حياً على الهواء إلى شعب مسلم ومؤمن في غالبيته، ولكنه شعب يعاني لسنوات طويلة الفقر والحرمان والخيبة السياسية على يد سلسلة من قادة تعهدوا له منذ 1952 بتحقيق الازدهار الذي لم يأت بعد. ووجد هؤلاء في كلام «الجماعة» والدعاة تهافتاً لا يثمر ولا يغني، وأدركوا بسرعة خطورة مصيدة الأحلام المنصوبة لهم. حتى أن السعودية الحاضنة التقليدية لـ «الجماعة» لنحو نصف قرن تقريباً، أدركت هذا الخطر وأطلقت رسالة سياسية غير مسبوقة لمواطنيـــها وللعالم بحظر «الجماعة».
وكانـــت مــــصـــر بقيادتها الجديدة سبقت السعـوديـة بــحـظرها «الجماعة» وإطاحة رئيسها محمد مرسي. فرفع الشعارات غير الملائمة والمشحونة بالتشنج الطائفي مثل «الاسلام هو الحل» و «… أخيراً وجدنا السبيل إلى الله»، يلهب المشاعر ويؤجج الكراهية ليس في مصر فحسب، بل في محيطها الإقليمي والجوار الخليجي.
وتعيد هذه الحــــالة إلى الأذهــان أحداثا خطيـــــرة وبــشعة وقعت إثر قيام ناشطين إسلاميين في مصر القلقة في أوائل السبعينات، في ظل نهوض حاد لمعاداة الكنيسة القبطية بين صفوف مجموعات إسلامية عدة. فقد أحرق العديد من الكنائس، بينها كنائس تاريخية في القاهرة. كما تضمنت منشورات تلك المجموعات «لعنات» موجهة للأقباط، وانتشرت حملات مروعة من الشتائم في بعض المدارس والجامعات وحتى المساجد. وأدى ذلك إلى اتساع التوتر بين أبناء الطائفتين تم التعبير عن بعض أشكاله بمواجهات في مناطق عدة في مصر بين 1977 و1978 انتشرت لاحقاً في مدن وقرى الدلتا. وامتدت أعمال الشغب والنهب في العاصمة في 1981 لثلاثة أيام متواصلة، كما تكررت هذه الأعمال في فترات متقطعة خلال الثمانينات والتسعينات ومطالع القرن الحالي.
وها هو الرعب من المجهول ينتشر راهناً بسرعة إثر النهوض الأخير للمجموعات الإسلامية المتطرفة.
من هنا يمكن فهم أهمية الرد الأخير على «الجماعة»، سيما التحول الجوهري في موقف السعودية في أعقاب موقفي مصر والإمارات العربية المتحدة بحظر «الجماعة»، ما يضعها في مواجهة أخطر مرحلة في تاريخها لأول مرة منذ تأسيسها قبل 85 عاماً.
فقد لعبت «الجماعة» عبر تاريخها، دوراً مؤثراً وعميقاً في الحركات الاسلامية عبر المنطقة والعالم باتباعها وسائل مغرية في تحشيد الشبيبة، لا سيما المراهقين، عبر جذبهم للعمل الخيري والنشاط الرياضي. كما أن «الجماعة» تلجأ غالباً لفتح المدارس الخيرية المجانية لهذه الشبيبة التي هي فقيرة في معظمها. وهناك منظومة تعليمية تعرف باسم «مدارس الجمعية الخيرية الإسلامية» منتشرة في بيئات فقيرة في بعض الدول العربية والآسيوية والإفريقية. والمعروف أنه منذ تأسيس حسن البنا لـ «الجماعة» عام 1928، حرصت فروعها في القرى والبلدات والمدن على إيجاد مدرسة إلى جانب النادي الرياضي والمسجد في كل منها لجذب الأعضاء الجدد. وقبيل نهاية الأربعينات قُدر وجود نصف مليون عضو في مصر وحدها قبيل بدء انتشار أفكارها في المنطقة.
الآن، وفـــي ضوء الموقف الموحد والضاغط للدول العربية الثلاث ضـــد «الجماعة»، يتوقع أن تخف قدراتها على الحــركـــة وتجـــف معها مواردها المالية، ما قد يخفف نشاطها في ضم عناصر جديدة.
الحياة