الرأسمالية والبوطمالية/ أحمد عمر
كان صديقي الشاب نوري يحضّر لامتحان الإقامة الألمانية، الذي يسمّونه في الترجمات الشائعة “التوجيه”، وترجمته بالمبادئ الألمانية العامة أصوب. والمبادئ حوالي ثلاثمائة معلومة عن ألمانيا تقدّم للممتحن بطريقة الصح والغلط، يتعلم فيها الوافد معلوماتٍ ضروريةً عن النظام السياسي، والمؤسسات السياسية؛ كالبرلمان، والنظام الديمقراطي والدستور، والانتخابات، وتاريخ الحرب العالمية، وقمع النظام النازي، وحقوق الوافد، وواجباته، واقتصاد ألمانيا، وهو اقتصاد سوقٍ مرفودٍ بالضمان الاجتماعي، فسألني نوري عن الاقتصاد السوري وتصنيفه، هل هو رأسمالي أم اشتراكي؟
قلت: إنه كان يصنّفُ نفسه بالاشتراكي، فالاشتراكية، بعد الوحدة والحرية، أحد أهداف حزب البعث الرومي الإمبريالي، وكان لي صديق، يسميه “الرأسماكي”، لكنه في الحقيقة بوطمالي.
شرحتُ له البوطمالية السورية، فقلت: إني أنسبه إلى البوط العسكري، وهو مثل الاقتصادين، المصري والجزائري، مع اختلافاتٍ، فهو في مصر عسكري طبقي، وفي الجزائر كذلك، وفي سورية طائفي الصبغة. وقد باتت فضيحة العسكرتاريا المصرية، التي تستولي على اقتصاد مصر، بجلاجل، فالسيسي يشرف بنفسه على خطوط الدفاع العسكرية، مثل خط بارليف الجمبري، وماجينو أبو جلمبو، وخطوط مدفعية البسكويت، وراجمات المعكرونة الاستراتيجية، ويمكن أن تصير لديهم رتب عسكرية، مثل: رتبة بسكويت ركن، أو المعكرونال، أو مساعد فجعاوي. أما في سورية، فقد ظلّ النظام باطنياً، بسبب هيمنة الطائفة على السعادة والسيادة. ورويت له في مثال، أنني كنت أعمل في شركة قطاع عام، وهو في الحقيقة إقطاع خاص، فسورية صار اسمها سوريا الأسد. وكانوا يمنحوننا كل سنة لباساً، وبوطاً عسكرياً، لزوم العمل، ولم يناسبني حجم اللباس قط، فهو إما “إكس لارج”، أو “ميني عليّ ميني”، وأحياناً “تعا ولا تجي”. وكان سعره المرقوم أعلى من سعر محلات الأحذية الفاخرة، ندفعه بطريقةٍ غير مباشرة، وكان البيع والشراء مخصوصا بشركة واحدة، متعاقدة مع الوزارة، وكان اسم الشركة يردُ في نشرات الأخبار في آخر السنة على أنها شركة رابحة، وتلك فضيحة غير فاضحة!
وحدث أنه، في إحدى السنوات العجاف، ولأني كنت أتأخر عن استلام مخصصاتي من اللباس والبوط، أن حصتي من البوط كانت تشبه النظام تماماً، “رأسماكيا” مثلها، فكانت كل فردةٍ بقياس مختلفٍ عن أختها، مع أن الفردتين من أم وأب واحد، هما السيد الرئيس والسيدة الأولى؛ فردة قياسها أربعون، وتوأمتها، أم أربعة وأربعين. فلم أستطع إهداءها لجاري الذي يستخدمها في أعمال غير كريمة. بوط عسكري يُهان في الأوحال و”الكخ”، فاحتفظت به، أعرضه للأصدقاء، ناقوساً من “الإقطاع” العام، يدقُّ في عالم البرهان والكفران، وقد جاء نظامنا لمحاربة الإقطاع والرجعية والصهيونية. وكنا ننشد، نحن والأصدقاء، في حالات السكر بأكواب الشاي: بواط الديار عليكم سلام.. وذكرتُ لنوري شيوع مصطلحات علمية جديدة في القواميس العلمية، مثل الأتمتة، والحوكمة، والعولمة، وقستُ عليها، فقلت: هذه هي البوططة.
كنا أحياناً نشتري بضائع من المؤسسات الاستهلاكية الملّاكية، وهي عادةً أرخص من القطاع الخاص، فيلزموننا بشراء بضائع إجبارية، ضريبةً على رخص بضائعها جزاءً وغراماً، فنكون قد خسرنا ما ربحناه من فروقٍ في الأسعار، مثل: صابون عسكري، مثل الحجر الصوان، كريه الرائحة، لا يرغي ولا يزبد غضباً مهما عذّبته. وأحياناً يبيعوننا بضائع محرّمة دولياً وصحياً، مثل الفيكسَتور الذي يؤذي طبقة الأوزون، وإن امتنعت عن شرائها، تتهم بتوهين روح الأمّة، وإضعاف الشعور القومي. قلت لنوري: الدول العظمى، مثل فرنسا وأميركا وبريطانيا، تبيعنا أحياناً بضائع “رأسماكية”، فتلزما بشراء طائرات، مثل الرافال القديمة، وهذه جزية مقنّعة، وأحياناً نتطوّع، فنشتري لوحاتٍ بأضعاف سعرها، مثل لوحة “المسيح المخلص”، الحائر بين شكل الأنثى، وهيئة الذكر، تشجيعاً للأمم الفقيرة، مثل بريطانيا وفرنسا وأميركا! ولخّصتُ محاضرتي بالقول: للرأسمالية مزايا ورزايا، فهي نظام احتكاري وابتكاري، أما البوططة، فنظام ترافُسي تعافُسي.
وختمتُ حديثي بقولي: لو كنتُ في الوطن للصقت صورة الرئيس الأب على الفردة أم أربعين حرامي، وصورة الابن على الفردة أم علي وادعبلي، من غير ذنبٍ أو خوف، فقد غدتْ الجزمة مقدّسة، ولها في بلادنا المعطاء أنصابٌ وتماثيل تُعبد، وإليها يسعى الشعب الأبيُّ ويحفد.
العربي الجديد