الربيع ثورة …زهره سيتأخّر
محمّد علي مقلّد
الربيع العربي ثورة تشبه الثورة الفرنسية لأنه ينقل العالم العربي، لأول مرة في تاريخه الحديث، من أنظمة الحكم الوراثي إلى الديمقراطية. وما كان يشهده قبل ذلك لم يكن سوى انقلابات تبدّل رأس الهرم في السلطة السياسية دون أن تمسّ جوهر النظام السياسي، نظام الوراثة الجمهوري أو الملكي أو السلطاني. على أن المقارنة تثبت وجه الشبه من غير أن تلغي الخصوصيات.
ترسّخت في الأذهان في أعقاب الثورة البولشفية أفكار ربطت بين الثورة والتغيير الاجتماعي الاقتصادي، فكانت الاشتراكية، أو أية صيغة من صيغ العدالة الاجتماعية تختلف عما هو سائد في الغرب الرأسمالي، هي المؤشر على قيام الثورة. وغاب عن الذهن أن مثل هذا التحوّل كان قد حصل في الغرب قبل قيام الثورة الفرنسية بمائتي عام على الأقل، ويؤرخ له علماء التاريخ باكتشاف أميركا وسقوط غرناطة وسقوط القسطنطينية، أي النصف الثاني من القرن الخامس عشر(1453-1492). تأكيدا على ذلك، يقول جاك مرسيليا أن الثورة هي “الاختتام المفاجئ والعنيف لعملية شاركت في صناعتها عشرة أجيال”. الثورة الفرنسية هي تتويج للتغييرات الاقتصادية والثقافية التي سبقتها في الظهور خارج فرنسا، وعلى وجه التحديد، في البلدان المنخفضة وبريطانيا. وقد عُدّ ذلك ثورة في هذين المجالين، أحدثت انقلابا جذريا في حياة البشر، لم يكن أمام الثورة الفرنسية إلا أن تتوجه في الحقل السياسي، وتشكل له الضمانة للاستمرار في أطر ومؤسسات وقوانين.
بين أيار وتشرين الأول من العام 1789 “دمّر الفرنسيون كل ما كان قد بناه ملوكهم بأناة وصبر منذ عصور” (المصدر نفسه)، غير أن البلاد دخلت في نفق الفوضى، النفق ذاته الذي لم تبلغ فرنسا، ومعها أوروبا الرأسمالية، الصيغة الحديثة من الديمقراطية، إلا عند نهايته، غداة الحرب العالمية الثانية. بين 1789 و1944، حربان عالميتان مدمرتان، وحروب استعمارية متنقّلة جسّدت العنف الدموي للحضارة الرأسمالية.
1789 عام الثورة، لكن الجمهورية الأولى تأسست في سنة 1792، وتوالى على الحكم حتى سنة 1848 إمبراطوران وثلاثة ملوك، وحصلت ثورتان وقامت ثلاث جمهوريات. وفي 1880، “رست باخرة الثورة في الميناء، بعد قرن كامل من المحاولات الناجحة والفاشلة وحالات التقدم والتراجع” ( المصدر نفسه)، التي اعتبرها بعض المؤرخين، رغم امتدادها على مسافة مئة عام، مرحلة انتقالية .
بين 1791 و1875 أكثر من عشرة نصوص دستورية. بعد الدستور الأول، كانت فرنسا ملكية من غير ملك وجمهورية من غير رئيس ولا حكومة. في آذار 1793 ثورة على الثورة، وفي حزيران من العام ذاته كانت كل محافظة تصنع ثورتها على طريقتها، ولا من يوحّد ولا من يجمع أشتات الفوضى الثورية.
في ربيع 1793 تحالفت ضد الثورة الفرنسية كل الكيانات الأوروبية، إنكلترا، الدول الألمانية، النمسا، إسبانيا، بروسيا، البرتغال، روسيا، دوق بارما، دوق مودينا، ملك نابولي، والكرسي البابوي. في حزيران من العام ذاته أقرّ الدستور الذي لم يطبق أبدا (على غرار الدستور العثماني 1886 الذي ما أن بدأ تطبيقه في انتخابات مجلس المبعوثان حتى علّقه السلطان). وفي العام ذاته أعلنت شرعة حقوق الإنسان.
لم تهدأ الأمور إلا بعد تدخل الجيش بقيادة نابليون في أكتوبر/ تشرين الأول 1795. بعدها خاض الجيش الفرنسي معركته الأولى في إيطاليا فأخضع بيامون ولومبارديا، وفي 1797 هزم الجيش النمساوي، وفي 1798 دخل إلى مصر… 1804 أول نص للقانون المدني المؤلف من 2281 مادة.
… 1814 عاد شقيق لويس الرابع عشر عودة مظفرة، ووقع الميثاق الذي كان على لويس الرابع عشر أن يوقّعه، ويقضي بقيام ملكية دستورية… 1830 ، فرّ شارل العاشر، وحلّ البرلمان وعلقت حرية الصحافة، وانتخب لويس فيليب الأول ملكا لفرنسا… 1848 انتفاضة في باريس، ودستور جديد وانتخاب رئيس للجمهورية، هو حفيد نابليون بونابرت، ونافسه الشاعر لامرتين… 1852 عاد نابليون الثالث إمبراطورا… الخ.
في تلك الفترة كانت قد توحدت ألمانيا وإيطاليا وتشكلت كيانات جديدة في الحضارة الرأسمالية وارتسمت حدود بين الدول المستحدثة المتحدرة من سلالة الرجل الأوروبي المريض (مملكة إسبانيا ومملكة هابسبورغ والدول – المدن في إيطاليا) وقامت بلدان على طريقة سايكس بيكو… الخ، ونشبت نزاعات وحروب صغيرة انتهت بالحربين العالميتين. بعد الثانية اقتنعت دول الحضارة الرأسمالية بأهمية الديمقراطية لتنظيم العلاقات بين الدولة والمواطنين، وبأهميتها في تنظيم العلاقات فيما بينها، فيما بينها فحسب.
لن يأخذ الربيع العربي بالمواقيت والمهل التي احتاجت إليها الثورة الرأسمالية في أوروبا، لأن وسائل الاتصال قصرت المسافات واختصرت الزمن، لكن من الضروري أن يتنبه المشككون بالربيع العربي بأن التاريخ إن أمهل فهو لا يهمل. مع الربيع العربي دخلنا في النفق المؤدي إلى قلب صفحة الأنظمة الوراثية وأنظمة الاستبداد. ونأمل ألا يكون النفق طويلا.
المدن