السخرية ممنوعة!!
سمير العيطة
في روايته “اسم الوردة” يقول أُمبرتو إيكّو [1] أنّ “الضحك خاصّة الإنسان (…) وأنّ هذا الكتاب يعلّم أنّ الحكمة تكمُن في تحرير الأنفس من الخوف من الشيطان (…) ومنه يمكن أن تنشأ الرغبة الجديدة والمخرّبة بتدمير الموت من خلال التحرّر من الخوف (…) ومنه أيضاً ستنتج الفكرة أنّ الإنسان يُمكن أن يحصل على وفرة الفردوس في هذه الأرض (…) وواجب من يحبّ البشر هو ربّما أن يجعلهم يضحكون من الحقيقة، وأن يجعل الحقيقة تضحك”. والكتاب المقصود هنا هو جزء ثاني أسطوريّ لمؤلّف أرسطوطاليس الشهير “فنّ الشعر”. كما روي عن النبيّ أنّه قال: “أنا أمزح، ولا أقول إلاّ صدقاً”.
هناك كثير من دواعي السخرية فيما تعيشه المنطقة العربيّة اليوم، مثل القول أنّ الربيع العربي في الأساس مؤامرة كونيّة، وأنّه يُمكن للتغيير أن يكون حلاًّ يمنيّاً يرحل فيه المستبدّ ويبقى أقرباؤه في مراكزهم، وأنّه يُمكن أن تنتشر الحريّة في بلد إن فقد سيادته، وأنّ حكّام إسرائيل يريدون عزّة العرب، وأنّ الولايات المتحدة وأوروبا متحمّستان كي تحلّ الديموقراطيّة في البلدان العربيّة، وأنّ قوى سياسيّة إقصائيّة للآخرين تموّل من الخارج يُمكن أن تأتي بهذه الديموقراطيّة، وأنّ الإسلام السياسي هو مستقبل السياسة في بلدان الربيع العربي، وأنّ توازن الطوائف والأقوام يصنع دولة، وأنّ استثمارات خاصّة ستأتي بالازدهار لشعوبٍ تتوق للكرامة، وأنّها يُمكن أن تسمّى مشروع مارشال، وأنّه يجب إرضاء دول الخليج سياسيّاً لأنّها وحدها ستأتي بالمال لتدفع بالنموّ الاقتصادي من جديد، وأنّ وسائل إعلام دولٍ غير ديموقراطيّة هي حاملة الثورة والحريّات في دولٍ أخرى، وأنّه يُمكن الانتقال نحو الديموقراطيّة مع التضييق على الصحفيين والكتّاب المحليين، لترك الساحة لإعلام المال. كلّ هذا يدعو للسخرية. بل من أكبر دواعي السخرية أنّه يُمكن إلغاء الضحك لفرض استقرار حكم، كما يحدث مع استدعاء جرّاح القلوب السابق والإعلامي المصري الساخر باسم يوسف من قبل نائبٍ عامٍّ، كانت تسميته إشكاليّة دستوريّاً، بتهمة ازدراء الدين وإهانة رئيس الجمهوريّة.
قتل تسونامي شباب العرب الخوف في أنفسهم من الحكّام الشموليين وأجهزتهم [2]، وحرّر طاقاتهم لطموح إقامة جنّة الناس على الأرض. إلاّ أنّ طريقهم صعبٌ وطويل. وحقيقة مسارهم تُضحِك وتَضحَك، ولكن ليس من يريدون وأد الربيع. لأنّ هؤلاء يسعون إلى عودة الخوف: الخوف على ما كان قائماً، مع أنّه زال أو سوف يزول؛ والخوف من المجابهة، مع أنّها مكتوبة منذ لحظة الانعتاق؛ والخوف من الدين، مع أنّ الدين حريّة.
القوى التي تريد إعادة الخوف كبيرة، ممتلئة بالمال، وتتصرّف بوسائل جديّة تغطّي كلّ الميادين، خاصّة عبر وسائل إعلامٍ ذي ضجّة مدويّة، يكمُن استثمارها الأساسيّ في تغيير النفوس والأفكار لإحباط الرغبة في جنّة الأرض… بحجّة إقامتها. وما تملكه الشعوب في مواجهتها ليس سوى وجودها هي كشعوب، مسلحّة بإرثها وبالسخرية، لأنّ شعوباً كمصر وسوريا واليمن قديمة قدم التاريخ.
معركة الربيع العربي الثانية قائمة إذاً اليوم، هي معركة بين مارد الخوف وسلاح السخرية منه، وبين الحقيقة اللاذعة والوهم الخادع، وبين ألم الولادة والفرح بالمولود المنتظر، وبين الموت والحياة. فالحياة وقفة عزّ واستهزاء بالموت. هذه المعركة ليست مع شيطانٍ مستبدٍّ يمثّل نظاماً مكروهاً وحسب، بل هي معركة مع شيطاننا الذي في داخلنا، ومع الخوف الذي يبثّ في نفوسنا، ومع خشيتنا من أن نهزأ منه ومن أقاويله وطروحاته، أو من أن نتعب ونملّ من البحث عن جنّتنا.
لا تصدّقوا ما أقوله لكم. ستأتي لنا الولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل ودول الخليج بالسلام والحريّة والازدهار. ولن تهتمّوا بعد اليوم إلاّ بالدعاء والشكر. وستصدح أقنية التلفزة بالأغاني والأهازيج. ولن يعكّر صفو تأمّلاتكم أحدٌ من المشكّكين وغواة المشاكل. ولن تحتاجوا حتّى إلى الضحك والسخرية، فقد رحل الشيطان إلى الجحيم.
لا تصدّقوا. فأنا أيضاً أمزح. حتّى في عزّ الألم، حتّى في وسط الحلم. ونحن جميعنا بشر.
لوموند ديبلوماتيك