السعودية والإصلاح: بغض العاصفة بدل الانحناء أمام رياحها/ صبحي حديدي
ذات يوم غير بعيد (ولكن في ذروة حماس «المحافظين الجدد» لنظرية انتقال «فيروس الديمقراطية» من العراق، تحت الاحتلال الأمريكي، إلى سائر العالم العربي، وخاصة دول الخليج العربي، ثمّ السعودية بصفة أخصّ)؛ نُقل عن أمير سعودي أنه اعتبر إجراء إصلاحات سياسية في المملكة أشبه بصدور طبعة من الـ»كاما سوترا»، ولكن في العصر الفكتوري. والأمير، الذي رفض الإفصاح عن اسمه لأنه كان يسارر الصحافي الأمريكي باتريك تايلر، من «نيويورك تايمز»؛ لم يكن يجهل، أغلب الظنّ، أنّ كتاب الإيروتيكا الهندي الشهير ظلّ متوفراً في أيدي الفكتوريين بطبعات كثيرة سرّية. ولهذا فقد تابع كلامه بالتأكيد على أن الإصلاحات قادمة إلى السعودية شاءت العائلة المالكة أم أبت، وأنّ رأي الأمير عبد الله (وكان ولي العهد يومذاك) يُختصر في المبدأ التالي: أليس من الأفضل إجراء هذه الإصلاحات الآن، قبل أن نضطرّ إلى إجرائها فيما بعد؟
والحال أنّ الإجراء، ذاك، لم يحصل تماماً، ولعلّ الحدود الدنيا من اشتراطاته ومقتضياته بقيت افتراضية ولم تتحقق البتة في أيّ يوم بعدئذ؛ كما أنّ ذلك الاضطرار اتخذ مظاهر شتى، واقتفى مسارات متعددة متشابكة، ومتناقضة مراراً، دون أن يقود المملكة إلى أيّ مستوى ملموس من «الإصلاحات» التي ألمح إليها الأمير، بعد تسع سنوات أعقبت انتقاله، رسمياً، إلى سدّة خادم الحرمين الشريفين. واليوم، على سبيل اقتباس الحاضر مثلاً، تتساءل أسبوعية الـ»إيكونوميست» البريطانية عمّا إذا كان من الحكمة استفزاز شيعة المملكة (10 إلى 15% من السكان) بإصدار حكم بالإعدام على العلامة الشيعي نمر باقر النمر؛ الآن بالذات… إذْ تحرص المملكة على حماية جمهور السنّة، غالبية سكان المملكة، من تأثيرات الجهاديين والإخوان المسلمين!
ذلك يعني، في ما يعنيه من خلاصات أخرى عديدة، أنّ آل سعود لا يبغضون الانحناء أمام العواصف قبل أن تهبّ، وهبوبها صار سمة هذا العصر العربي والإقليمي، فحسب؛ بل يتقصدون أحياناً مناطحة الرياح على النحو الأكثر تعنتاً وعناداً، وقصر نظر وغفلة أيضاً. أهذه، حقاً، هي السياقات الأنسب لإصدار هذا الحكم على مبشّر يحظى بشعبية واسعة في صفوف التشيع الشعبي، ولا يطرح أيّ خيارات مسلحة أو جهادية، ويساوي في الطغيان بين آل خليفة في البحرين وآل الأسد في سوريا؟ والذي يتشدد هكذا ضدّ رجل دين فرد، يطرح آراءه علانية داخل حدود المملكة؛ كيف يغضّ الطرف عن قائد ميليشيات مسلحة، مثل عبد الملك الحوثي، اجتاح نصف اليمن، جارة السعودية؟ وفي نهاية المطاف، أليست عقوبة الإعدام ـ حتى في بلد كالسعودية، اعتاد على تنفيذ المئات منها ـ هي المآل الأقصى الذي يُنتهج حين تكون الجرائم عظمى، والأخطاء لا تٌغتفر؟
المرء يعود بالذاكرة إلى رياح «عاصفة الصحراء»، دون سواها، حين تلقّت العائلة الحاكمة رسالة، عُرفت بعدئذ باسم «مذكرة النصيحة»، وقّعها عدد من الشخصيات السعودية البارزة والعاملة في مختلف الميادين، تطالب بإجراء إصلاحات شاملة سياسية واقتصادية واجتماعية. ولأنّ آل سعود لم يستجيبوا لأيّ من مطالب تلك المذكرة، فقد تشكلت في المملكة حركة معارضة سياسية إسلامية التوجه وذات جناحين: الأوّل كان سياسياً بقيادة سعد الفقيه ومحمد المسعري، وحمل اسم «هيئة النصيحة والإرشاد»، وكان مقرّه العاصمة البريطانية لندن؛ وأما الجناح الثاني فقد كان أكثر تشدداً وخطورة، وطالب بإخراج القوات الأمريكية من البلاد، وإجراء تغييرات جذرية تمسّ النظام الملكي ذاته، وتزعمه رجل كان يُدعى… أسامة بن لادن!
بعدها، في واقعة ثانية ذات دلالة، أصدر أكثر من مئة شخصية سعودية مذكرة جديدة حملت عنوان «رؤية لحاضر الوطن ومستقبله»، تضمنت مجموعة كبيرة وهامة من المطالب الإصلاحية. وقد حاول الموقعون، وهم خليط من الوزراء السابقين وأساتذة الجامعات والكتّاب ورجال الأعمال والشخصيات الليبرالية والدينية من الطائفتين الشيعية والسنية، تقديم الوثيقة إلى ولي العهد مباشرة، (وكان ملك البلاد الفعلي، في الواقع)، وحين وجدوا ممانعة من مساعديه، أرسلوا إليه المذكرة بالبريد المضمون! المفاجأة الثانية كانت أنّ الأمير عبد الله استقبل وفداً منهم، ضمّ 30 شخصية، وقال لهم بالحرف الواحد: «إنّ مطالبكم هي مطالبي»، وإنه يسعى بكل جدية من أجل الإصلاح ووقف هدر المال العام.
وكانت المذكرة قد ركزت على الشؤون الداخلية أولاً، فتحدثت عن تدهور الخدمات العامة، وتصاعد البطالة، وتفاقم الدين العام، وانتهاك حرمة المال العام، والتدني الملحوظ في دخول المواطنين، وانتشار العنف، وانحسار دور المهتمين بالإصلاح والعمل الوطني. وفي ملفّ الإصلاح السياسي، طالبت المذكرة بتشكيل مجلس شورى ومجالس مناطق عن طريق الانتخاب المباشر، والتأكيد على مبدأ استقلالية القضاء وإزالة كلّ القوانين التي تحدّ من فعاليته وحصانته، وإصدار إعلان ملكي يضمن للمواطنين ممارسة حقوقهم في مجال حرية الرأي والتعبير والتجمع وسائر حقوق الإنسان.
كذلك ناقشت المذكرة مطالب تقوية التفاعل بين المجتمع وقيادته، وتوحيد الجبهة الداخلية، وتأكيد دور الدولة والمجتمع في إشاعة ثقافة حقوق الإنسان التي أمرت بها الشريعة الإسلامية، مثل التسامح والعدل واحترام حقّ الإختلاف، ودعم الوحدة الوطنية، وإزالة عوامل التفرقة والتمييز، مذهبية كانت أو طائفية أو مناطقية أو اجتماعية، ومنح المرأة جميع حقوقها التي تكفل لها المشاركة الفاعلة في الشأن العام. والخاتمة اقترحت عدداً من المبادرات التي تشجع أجواء الثقة: إعلان عفو عام عن المعتقلين بتهم سياسية، أو تقديمهم إلى محاكمات علنية، وإعادة الحقوق العامة لدعاة الإصلاح وإعادتهم إلى أعمالهم، وإيقاف القيود على السفر والتهديد بالسجن والطرد من العمل…
هل أمكن لتلك المطالب أن تكون، حقاً، مطالب الحاكم، ممثّل آل سعود، الأمير عبد الله؛ أسوة بالمحكوم، ممثّلي مختلف فئات وطوائف المجتمع السعودي؟ الأيام أثبتت أنّ العكس هو الصحيح، بل أكدت أنّ البون ليس شاسعاً واسعاً بين الحاكم والمحكوم، فقط؛ بل أنّ رأب الصدع بطيء، متباطىء، أو ساكن منعدم الحركة تماماً. وممّا يسرّع في هذه الوتيرة أنّ شرعية النظام اهتزّت دينياً وسياسياً، وأخذ يزداد ضعفاً مبدأ الطاعة المبنيّة على النص الديني، بل لعلّ المبدأ ذاته تحوّل إلى شرعية مضادّة، جهادية وتدعو للخروج على النظام. وعلى الصعيد السياسي، لم يعد النظام قادراً على إقناع الجمهور، وأخذت تتلاشى تدريجياً صورة التلاحم الداخلي التي رسمها في أذهان المواطنين، بل إنّ علاقات النظام وسياساته الداخلية ومواقفه الخارجية منذ 11/9 باتت تتسبّب في العكس تماماً، أي انكشاف مقدار الزيف في تركيب عناصر تلك الصورة.
وقبل هذا وذاك، انتهت دولة الرفاه أو تكاد، والأوضاع الإقتصادية تسير من سيء إلى اسوأ، وثمة مشكلات إقتصادية جدّية بالفعل تعيشها المملكة للمرّة الأولى منذ تأسيسها سنة 1932. وميزان المملكة اليوم يشير إلى عجز آل سعود عن المصالحة بين كفتين متفجرتين: مكافحة التيارات الإسلامية المتشددة، والحدّ من عملياتها العسكرية المتزايدة، في داخل المملكة وجوارها أيضاً، من جهة؛ والحفاظ على استقرار النظام وتماسك علاقته بالمؤسسة الدينية الوهابية، ثمّ تمثيل الإسلام السنّي، «المعتدل» أو «الشعبي»، العريض، داخل المملكة وخارجها أيضاً، من جهة أخرى.
وأن يبغض آل سعود الانحناء أمام العواصف، أمر لا يخمد هبوبها، غنيّ عن القول؛ ولا يحول دون ظهور نماذج أخرى من الشيخ نمر النمر، أكثر تشدداً وعصفاً على الأرجح!
٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس