السلام التركي الكردي في الامتحان الصعب/ خورشيد دلي
لا الحكومة التركية، ولا حزب العمال الكردستاني، له مصلحة حقيقية، خارج العملية السلمية الهادفة إلى التوصل إلى اتفاق لحل القضية الكردية في تركيا سلمياً. فتجربة العنف في العقود القليلة الماضية تقول إن الحرب بين الجانبين أودت بحياة قرابة 50 ألفا، ودمرت أكثر من أربعة آلاف بلدة وقرية كردية، وكلفت البلاد قرابة 500 مليار دولار، وهو مبلغ كان كافياً لتحقيق نهضة شاملة في المناطق الكردية في تركيا، فيما لو استثمر في التنمية. بعد نحو سنتين من انطلاق العملية السلمية بين الجانبين، ثمة مراوحة في المكان، باتت تشكل خطراً على مستقبل العملية والهدف منها، خصوصاً أن التطورات الدراماتيكية الحاصلة في المنطقة بدأت تؤثر على إيقاع هذه العملية. ولعل ما جرى ويجري في كوباني عين العرب يؤكد هذا الأمر، إذ كادت التظاهرات الاحتجاجية التي اندلعت في مدن تركية عديدة، احتجاجا على ما يجري في كوباني، أن تضع نهاية لهذه العملية، لولا دعوة زعيم حزب العمال الكردستاني، عبدالله أوجلان، الكرد إلى التهدئة، واكتشاف تركيا أهمية أوجلان قيمة لضمان استقرار البلاد. وعليه، زاره رئيس الاستخبارات التركية، حقي فيدان، من جديد، وبحث معه عن صيغة تنقذ العملية السلمية.
ما هي الأسباب الأساسية التي تمنع هذه العملية من التقدم وتحقيق أهدافها؟ في الواقع، ثمة أسباب كثيرة، لعل أهمها غياب الثقة بين الجانبين، إلى درجة أن مراقبين أتراكاً يقولون إن الثقة بينهما تقارب الصفر، ولولا وجود أوجلان مفاوضاً، لانهارت العملية منذ زمن بعيد، خصوصاً أن القيادة العسكرية للحزب في قنديل أكدت، مراراً، أنها لا تشعر بوجود عملية سلمية حقيقية، في ظل رفض أنقرة التفاوض معها، وإصرارها على وصف الحزب بالإرهاب، كما أن التهديدات المتواصلة للحزب بإنهاء الهدنة من جانب واحد، والعودة إلى العنف، أشعرت أنقرة بعدم جدية الحزب في التوجه إلى السلام ونزع السلاح، أو على الأقل، جعلها تحس بأنها لن تعمل تحت الضغوط والتهديدات، وإنما وفقا لأجندتها.
يضاف إلى غياب الثقة سبب آخر مهم، هو أن العملية السلمية انطلقت على شكل نداء من أوجلان، فيما تحتاج هذه العملية إلى خريطة طريق أو حل واضحة، تقوم على التزامات متبادلة، ومراحل زمنية، وآليات تنفيذ، وتحويل الخطوات التي تتخذ، في هذا السياق، إلى حالة قانونية ودستورية، وإلا فإن السلام لن يحصل، وكل هذا غير متوفر، ما يشكل عيباً أو خللاً في العملية، شكلاً ومضموناً. للأمر، أو السبب، الثالث علاقة بطريقة اقتراب الطرفين من العملية السلمية، فحزب العمال الكردستاني يعتقد أن سقف الحقوق التي تطرحها تركيا لا يلبي الطموحات الكردية، وأن التطورات الجارية، بعد حرب التحالف ضد داعش، زادت من دور الكرد في المعادلة الإقليمية. وبالتالي، زاد من الموقف الكردي قوة تجاه أنقرة، فيما مقاربة الأخيرة مختلفة تماماً، وهي تنطلق من أن العملية محض داخلية، ولا تقبل بوجود طرف ثالث، يقوم بدور الراعي أو الضامن. وعليه، رفضت اقتراح حزب العمال الكردستاني بإدخال الجانب الأميركي راعياً للعملية. كما لم تستجب، حتى الآن، لطلب أوجلان إشراك قيادات من حزبه في قنديل في المفاوضات الجارية. ولعل الجانب التركي يتحجج بجملة من التعقيدات الدستورية والسياسية التي لها علاقة بالبنيان السياسي للدولة التركية، والذي قام، في الأساس، على إنكار البعدين الديني والقومي (الكردي) في هوية تركيا، قبل أن يصل حزب العدالة والتنمية إلى الحكم عام 2002، وينجح تدريجياً في إنهاء المواد التي كانت تقصي البعد الديني في البلاد، فيما بقي بعد التعدد القومي موضع شد وجذب، ويخضع للمعادلات السياسية المتعلقة بالإصلاحات من جهة، وبالصندوق الانتخابي من جهة ثانية.
ويرى الجانب الكردي أن للمماطلة التركية في التهرب من التوصل إلى خريطة طريق، وإلى اتفاق سلام، علاقة بالانتحابات البرلمانية المقررة في صيف العام المقبل، بغية منع الحزب، عبر جناحه السياسي، من الاستفادة من العملية السلمية، إنجازاً له في صناديق الاقتراع، بما يعني حرمانه من أوسع مشاركة في الحياة السياسية في البلاد. في حين تقول أنقرة إن الحزب الكردستاني لا يعطي جواباً قاطعاً بشأن تركه السلاح، واستمراره في محاولات فرض سلطته في المناطق الكردية، في إطار تطلعه إلى إقامة كيان مستقل، عندما تتيح له الظروف ذلك، فضلا عن محاولته الاستفادة من التحالفات الإقليمية لإضعاف الموقف التركي الإقليمي.
في الواقع، يمكن القول إن التعقيدات والتحديات التي تواجه عملية السلام التركية الكردية كثيرة، وهي تعقيدات دفعت بالطرفين إلى محاولة البحث عن آليات جديدة لدعم العملية بآليات جديدة. وعلى هذا الأساس ينبغي النظر إلى دعوة أوجلان إشراك قيادات من حزبه في المفاوضات، وكذلك مطالبة الحزب بإشراك أميركا كطرف ثالث، ربما تطلعا إلى تكرار ما يشبه السيناريو الذي جرى بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، مع اختلاف الحدث والظروف. فيما أنقرة نفسها باتت تتحدث عن أن عملية السلام يجب ألا تقتصر على محاور واحد، في إشارة إلى حزب العمال الكردستاني. هذه الاستدراكات التركية والكردية بشأن كيفية المضي في عملية السلام تأتي تعبيرا عن وصول عملية السلام بين الجانبين إلى منعطف خطر، وتؤكد في الوقت نفسه ضرورة التفكير بعقلية مفتوحة للتوصل إلى خريطة طريق، والتزامات متبادلة، وخطوات متزامنة زمنيا، تجعل للعملية السلمية معنى، وتمكنها من تحقيق هدفها المتمثل في تحقيق السلام. وأي خيار آخر سيكون مدمرا، فاندلاع القتال مجددا لن يؤدي سوى بحياة آلاف الضحايا.
العربي الجديد