السلطة والوطنيّة والديمقراطيّة في بلاد “الربيع العربيّ”/ حسام الدين درويش
يستدعي الحراك الجماهيريّ أو الشعبيّ الحاليّ في البلاد العربيّة عمومًا، وفي تلك التي ساهمت في تأسيس “الربيع العربيّ” خصوصًا، إعادة التفكير والنظر في مضامين الشبكة المفاهيميّة المؤسّسة للفكر السياسيّ مثل: “السلطة”، و”المعارضة”، والوطنيّة”، و”الديمقراطيّة”، و”مبدأ الانتخاب”، وغيرها. ولإعادة النظر هذه أهمّيّةٌ خاصّةٌ في السياق العربيّ الحاليّ؛ إذ أصبح ثمّة – ولأوّل مرةٍ منذ عقودٍ طويلةٍ – معنى أو جدوى من الحديث عن الديمقراطيّة أو الوطنيّة أو الانتخابات في معظم البلاد العربيّة. فالربيع العربيّ أفسح المجال، بالنسبة إلى الثائرين والمفكرين في البلاد العربيّة عمومًا، لتحويل الأحلام الديمقراطيّة والتحرّريّة من أضغاثٍ وأمنيّات، كانت تبدو مسدودة الأفق ومستحيلة التحقيق على المدى المنظور على الأقل، إلى طموحاتٍ ومشروعاتٍ في واقعٍ أصبح أُفقه مفتوحًا على ممكناتٍ متنوّعةٍ.
وسنقوم في هذه المقالة بدراسةٍ موجزةٍ لبعض المفهومات المذكورة، وسنوضّح، أولًا، المعنيين المتناقضين لمفهوم “السلطة”: السلطة القائمة على الإخضاع والخوف، والسلطة القائمة على العطاء والاعتراف. وهذا التناقض بين المعنيين يعطي مشروعيّة للحديث عن مفهومين للسلطة، أحدهما يحيل إلى ما كان قائمًا، ولايزال، في معظم البلاد العربيّة، والآخر يشير إلى ما ينشده الحراك العربيّ الثائر ويعمل على تحقيقه. وسنبيّن ثانيًا، أنّ الوطنيّة ليست حالةً قائمةً أو واقعًا معطىً في البلاد العربيّة عمومًا، بل هي أفقٌ منشودٌ، وسمةٌ ينبغي أن تلازم الحراك الثوريّ إذا أراد تحقيق أهدافه المتمثّلة بالدرجة الأولى في التحرّر من الاستبداد البغيض واستعادة الكرامة المسلوبة. وسنناقش، ثالثًا، العلاقة بين مفهومي “الديمقراطيّة” و”مبدأ الانتخاب”، لنبيّن أنّ هذا المبدأ هو أحد أهم أسس الديمقراطيّة من دون أن يكون أساسها الوحيد، وأنّه من الضروري – في مرحلة ولادة النظام الديمقراطيّ خصوصًا – أن يراعي هذا المبدأ مبادئ الديمقراطية الأخرى ويتأسّس عليها، لكي تكون الانتخابات ديمقراطيّة فعلًا وتسهم في إنتاج الديمقراطيّة وإعادة هذا الإنتاج. وسنتّخذ من الوضع في سوريّة الثائرة مرجعيّةً واقعيّةً، نرى أنّها نموذجيةٌ لتوضيح الأفكار والمفاهيم المطروحة.
السلطة: بين الخضوع القسريّ لها والاعتراف الطوعيّ بها
في الفلسفة كما في فكر الحياة اليومية، وفي الغرب كما في الشرق، ثمّة معنيان أو مفهومان أساسيّان للسلطة. فمن ناحيةٍ أولى، نجد “سلطة الإخضاع القسريّ”، أي السلطة بوصفها رمزًا للقهر والإرغام، ورديفًا لانعدام العقل والحريّة، ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، نجد “سلطة الجدارة المُعترَف بها”، وهي السلطة القائمة على جدارة أصحابها واستحقاقهم من جهةٍ، وعلى اعتراف الآخرين الطوعيّ بتفوّقهم وبأحقّيّة هذا التفوّق من جهةٍ أخرى. فالسلطة الأولى، سلطة الإخضاع والقسر، هي سلطةٌ تستهدف مصلحتها الخاصّة فحسب، أو بالدرجة الأولى، وهي تتسلّط على الآخرين وتستغلّهم، قدر الإمكان، من أجل تحقيق تلك المصلحة. ولهذا، لا تحظى هذه السلطة عادةً بحبّ الخاضعين لها، لكنها تحظى برضوخهم وطاعتهم لها لأسباب تتعلّق عمومًا بضعفهم وقوتها. أما سلطة الجدارة المعترف بها فهي تهدف، بالدرجة الأولى، إلى خدمة مصلحة الآخر و/أو المصلحة العامّة، وهي تنال تقبّل الآخرين ومحبتهم لها واعترافهم بها، بفضل تفاعلها الإيجابي معهم، بعيدًا عن وسائل القسر والقهر.
يمكن أن نرى حضور هذين الشكلين من السلطة في مختلف مستويات الواقع العربيّ؛ فعلى مستوى الأسرة، تتراوح أشكال السلطة الأبويّة بين “شكلٍ استبداديٍّ” يفرض فيه الآباء ما يريدونه على الأبناء بوسائل قمعيّةٍ متعدّدةٍ قد تصل إلى حدّ استخدام العنف الجسديّ المفرط، وبين “شكلٍ ديمقراطيٍّ” يكتسب فيه الآباء احترام أبنائهم وتقديرهم بفضل المعاملة الحسنة القائمة على الحبّ والعطاء وتلبية حاجاتهم، ومراعاة رغباتهم واحترام إنسانيّتهم واختلافهم وخصوصياتهم. وعلى مستوى التعليم، نجد الأمر نفسه تقريبًا؛ فهناك مدرِّسون يجدون في مناصبهم وسيلةً للتعامل بفوقيّةٍ مع التلاميذ والطلاب، ويرون في عملهم منّةً وعطاءً يوجب إجبارهم على إظهار كلّ أشكال الامتنان الذليل والطاعة القسريّة والخضوع الإجباريّ. وفي المقابل، ثمّة مدرِّسون يتمحور اهتمامهم في عملهم حول مصلحة طلّابهم ونجاحهم في التحصيل المعرفيّ الأفضل والأنسب لمستقبلهم، وتكون السلطة بالنسبة إليهم واجبًا ينبغي أداؤه بإحساسٍ عالٍ بالمسؤوليّة، والتزامٍ كبيرٍ بالقيم الأخلاقيّة السامية والسمحة. وغالبًا ما يحظى هؤلاء المدرسون بحبّ طلابهم واحترامهم الطوعي.
يبدو حضور هذين الشكلين من ممارسة السلطة، في المستوى السياسيّ، أكثر وضوحًا وأهميّةً. وتؤسّس السلطة السياسيّة شكلي حضور السلطة في المستويات الأخرى، وتتأسّس عليها، في الوقت نفسه. وتتّسم معظم السلطات السياسيّة العربيّة بأنّها – غالبًا – أقرب إلى نموذج “الإخضاع القسريّ”. في هذا النموذج، لا تحظى السلطات السياسيّة بالاعتراف الطوعيّ لمواطنيها، لكنها تحظى عمومًا بالطاعة والخضوع على أساس الترهيب المستمر، الممزوج بالترغيب أحيانًا. وهذا الخضوع هو أهم ما تسعى له أيّ سلطةٍ استبداديّةٍ، وهو الذي يميّزها عن الأشكال الأخرى من السلطة. وفي المقابل، لا تمارس “سلطة الجدارة” سلطتها إلا في ضوء الاعتراف بأحقيّتها في هذه الممارسة، وهذا الاعتراف وحده هو المؤسّس لهذه السلطة.
ولا يعيش الإنسان العربيّ إنسانيّته ولا يحافظ على كرامته ويمارس مواطنيّته إلا بقدر ارتهان السلطات التي يتعامل معها باعترافه بها وقبوله أو تقبّله لها، وبقدر ابتعاده عن “سلطات القسر والقهر” التي تظهر في أشكالٍ مختلفةٍ وفي مجالات الحياة كلها تقريبًا. وتتجسّد هذه السلطات في كلّ اتجاهٍ يحاول أن يفرض ذاته أو رأيه أو لونه على غيره بالإكراه أو الإجبار. ونجد مثالًا نموذجيًّا عن ذلك في النظام السوريّ الذي ما زال يحاول إخضاع السوريّين لسلطته، على الرغم من أنّ الشعب الثائر قد أعلن منذ وقت طويل رفضه لهذا النظام، وعدم اعترافه به وبشرعيّته المزعومة. لكنّ التخلّص من هذا النظام المستبدّ – على أهميّة هذا التخلّص وأولوّيّته – لا يفضي بالضرورة إلى التخلّص من كلّ أشكال الاستبداد. فبعد تحرّر بعض المناطق السوريّة من سيطرة النظام، خضع بعضها لاستبداد سلطاتٍ جديدةٍ تحاول أن تفرض أجندتها الخاصّة على الناس، من دون أن تأبه لرأيهم في هذه الأجندة وفي أصحاب هذه الأجندة. وقد تمّ تبرير الاستبداد فتراتٍ طويلةٍ بوطنياتٍ مزعومةٍ عن أمةٍ مأزومةٍ ومكلومةٍ يتطلب وضعها اتّخاذ إجراءاتٍ استثنائيّةٍ. لكنّ الاستثناء صار قاعدةً، وأفضى إلى خلق أشكالٍ جديدةٍ من الاستبداد ذات صبغة دينيّة أو طائفيّة أو عصاباتيّة أعادت التكفير الدينيّ أو الطائفيّ أو المذهبيّ إلى الساحة، بعد أن ساد، فترةً طويلةً، التكفير الأمنيّ أو المخابراتيّ.
وعلى الرغم من أنّ نموذج “سلطة الإخضاع القسريّ” يتناقض بطبيعته مع نموذج سلطة “الاعتراف والتقبّل الطوعيّ”، فإنّنا نجد في بعض البلاد العربيّة المُبتلية بالأنظمة الاستبداديّة ظاهرةً غريبةً تتمثّل بامتزاج هاتين السلطتين وتصالحهما بطريقةٍ مَرَضيّةٍ، مثل ظاهرة “المنحبّكجيّة” السوريّة. وتكمن مَرَضيّة هذه الظاهرة وغرابتها في تمجيد بعض الناس للمستبدين، على الرغم من كلّ ما فعلوه ويفعلونه بشعوبهم وبلدانهم. وتبلغ هذه الظاهرة قمّة غرابتها ومَرضيّتها لدى من لا يتأسّس موقفهم على مصلحةٍ شخصيّةٍ أو انتماءٍ ضيّقٍ ما، وإنّما ينبني موقفه الممجِّد للمستبدّ الظالم على اقتناعٍ صادقٍ وراسخٍ بصلاح هذا المستبد وجدارته وأحقّيته. ربما زالت غرابة هذه الظاهرة، نظرًا إلى شيوعها واعتيادنا حضورها، لكن مَرَضيّتها أمرٌ يصعب إنكاره، ولا يمكن تجاهله أو السكوت عنه. وربما كان الحلّ الوحيد لهذه الظاهرة هو إجبار أمثال هؤلاء الناس على أن يكونوا أحرارًا، كما قال روسو في عقده الاجتماعيّ. ويحتاج تنفيذ هذا الحلّ إلى نجاح الموجات المتتالية من الثورات العربيّة في القضاء على الأنظمة الاستبداديّة القديمة، والتخلّص من أصنامها وأوثانها، قبل البدء بمحاولة بناءٍ ستستغرق وقتًا أطول وجهدًا أكبر، على أمل أن تفضي في مرحلةٍ ما إلى تحويل البلد إلى وطنٍ، والرعيّة إلى مواطنين، و”المنحبكجيّ” إلى إنسانٍ، بالمعنى المعياريّ أو الأخلاقيّ للكلمة.
الثورة السوريّة: بين التاريخ والجغرافية والوطنيّة
ثمّة عوامل عديدة أسهمت في قيام الثورة السوريّة واستمرارها حتّى الآن، ومن أهمّ هذه العوامل التغلّب على الخوف الذي زرعه النظام في نفوس السوريين الذين كانوا يعيشون غالبًا في حالة رعبٍ حقيقيّةٍ حين يتعلّق الأمر بالسياسة والفروع الأمنيّة. وكلّ شيءٍ تقريبًا كان – ولا يزال – متعلّقًا بالسياسة والأجهزة الأمنيّة المهيمنة على كلّ مؤسّسات الدولة ومعظم جوانب الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة. ولم يكن هذا الخوف الذي عشّش في نفوس معظم السوريين وليد لحظةٍ معزولةٍ، ولا نتيجةً لفطرةٍ أو بيئةٍ ثقافيّةٍ أو اجتماعيّةٍ أو اقتصاديّةٍ معيّنةٍ، وإنّما هو حصيلة تاريخٍ طويلٍ من القمع الوحشيّ الذي مارسه النظام ضدّ معارضيه الفعليّين أو المحتملين، وقد بلغ ذروته في ثمانينيّات القرن الماضيّ. ومنذ ذلك التاريخ، ترسّخت في ذهن السوريّين المخاطر الكثيرة والكبيرة والفظيعة التي يمكن أن تصيب من يجرؤ على معارضة النظام أو على عدم تأييده. ولم يوفّر النظام أيضًا أيّ فرصةٍ لتأكيد هذا الاقتناع وتعزيز هذا الخوف في إطار تأسيسه لدولةٍ أمنيّةٍ مخابراتيّةٍ بامتياز. وقيام الثورة السوريّة تمّ من خلال التغلّب على هذا التاريخ الطويل من الخوف. ولا يعني التغلّب على الخوف زواله، كما يظنّ الكثيرون؛ فما زال الكثير من المعارضين والثائرين يشعرون بالخوف من هذا النظام ومن الجرائم التي يمكن أن يقترفها في حقّهم وفي حقّ أحبّائهم وأحيائهم وبلداتهم ومدنهم بأسرها أيضًا. فالتغلّب على هذا الخوف التاريخيّ يعني عدم التصرف انطلاقًا منه أو على أساسه. فثمة شعبٌ ثائرٌ، على الرغم من وجود الخوف، وليس بسبب عدم وجوده. وهذا الانتصار التاريخيّ على الخوف المترّسب عبر التاريخ القمعيّ، هو الذي ساعد على امتداد الثورة مكانيًّا، واستمرارها زمانيًّا، على الرغم من كلّ العنف الوحشي الذي مارسه النظام وما زال يمارسه ضدّ الثوّار.
لكن من الواضح أنّ التغلّب على الخوف التاريخيّ غير كافٍ لانتصار الثورة؛ فثمّة عائقٌ آخر يحول حاليًّا دون تحقيق هذا الانتصار المنشود. ويتمثّل هذا العائق بالجغرافية السياسيّة للمنطقة، والدعم القويّ الذي يتلقّاه النظام من حلفائه الإقليميّين والدوليّين. فالجغرافيّة السياسيّة للمنطقة تعقّد كثيرًا مهمّة الثوّار الساعين إلى إسقاط النظام؛ فهناك إسرائيل وأمنها المقدّس لدى معظم القوى العالميّة الكبرى، وهناك إيران وحزب الله وتحالفهما الإستراتيجيّ مع النظام الممانع والمقاوم لأيّ تغييرٍ حقيقيٍّ باتجاه قيام سورية ديمقراطية. فمواجهة النظام أفضت وتفضي بالضرورة إلى مواجهة مع هؤلاء الحلفاء وإلى أخذ رأي نظامي إسرائيل والعراق في الحسبان. ولا تساعد هذه المواجهة وتلك الآراء، كما هو واضحٌ، على نجاح الثورة السوريّة في تحقيق أهدافها التحرّريّة. لكنّ هذه الجغرافية السياسيّة تهدّد وطنيّة الثورة وتنذر بإدخالها في إطار الحروب الطائفية والمذهبيّة التي تعمل بعض الأطراف الدوليّة والإقليميّة على إشعالها أو إحلالها محلّ الصراعات الأساسيّة التي ينبغي الانشغال بها؛ وهي المتمثّلة بالتحرّر الداخليّ وبناء دولة المواطنة من جهةٍ أولى، وتحرير الأراضي العربيّة المحتّلة من قِبل إسرائيل وغيرها من جهةٍ ثانيةٍ. ولهذا السبب وغيره، ينبغي الانتباه إلى هذه الجغرافية السياسيّة، والتفاعل معها، بعيدًا من تحويل الثورة السوريّة إلى ثورة سنّيّةٍ أو سنّويّةٍ ضدّ العلويّة أو الشيعة وحلفائهم، أو إلى حربٍ عربيّةٍ أو عروبيّةٍ ضدّ الفرس والصفويين وأتباعهم. ومن هنا تأتي ضرورة توضيح مفهوم الوطنيّة أو البعد الوطنيّ، وهو البعد الذي ينبغي أن يبقى ملازمًا لهذه الثورة العظيمة.
يتعين التشديد بدايةً على صعوبة الحديث عن وطنيّةٍ سوريّةٍ، أو عن وطنٍ سوريٍّ، قبل الثورة. فالقضاء على “سوريّة الوطن” حصل بالتوازي مع اختزالها في “سوريّة الأسد”. فكيف يمكن الحديث عن وطنٍ في ظل استحالة وجود مواطنين؟ فسورية كانت بلدًا، وليست وطنًا، يسعى معظم قاطنيه إلى الانشغال بمصالحهم الخاصّة بعيدًا من أيّ تفكيرٍ في المصلحة العامة أو مصلحة الوطن. فالتفكير في الوطن أو في المصلحة العامّة أو الوطنيّة، والعمل من أجل تلك المصلحة، لم يكن غالبًا أمرًا ممكنًا أو مجديًا، وكان يفضي عمومًا إلى الإضرار بمن يتجرأ عليه، أكثر من نجاحه في تحقيق ما هو مرجوٌّ منه. ومع الثورة، بدأت تظهر ملامح وطنيّةٍ سوريّةٍ جديدةٍ، وبدا ذلك واضحًا في هتافات المتظاهرين وشعاراتهم المناصرة لهذه المنطقة السوريّة المنكوبة أو تلك، مثل: “بالروح بالدم نفديكِ يا دوما”، و”يا درعاوي دمّك دمي”، و”يا حمص نحنا معاكي للموت” … إلخ. فإذا كان قمع النظام للسوريّين قبل الثورة قد أضعف من وطنيّة السوريين أو قضى عليها تمامًا تقريبًا، فإنّ قمع النظام للثائرين عليه ولمعارضيه أثناء الثورة أسهم في جعلهم يشعرون بوجود وحدةٍ عميقةٍ بينهم. وهذه الوحدة، القائمة على القيم والمصالح والهموم والتطلّعات المشتركة، هي التي أنتجت، وما زالت تنتج، بذور الوطنيّة السوريّة الجديدة. لكنّ هذه الوحدة الثورية الوليدة ظلت مهدّدةً حاليًّا بعوامل الجغرافية السياسيّة التي تدفع باتّجاه حرف الثورة عن مسارها ووضعها في إطار الصراعات الطائفيّة والمذهبيّة التي تتعيَّش بعض الأنظمة الإقليميّة من وجودها وتحتمي بها. وتقتضي الوطنيّة الثوريّة الوليدة الوفاء لقيم الثورة التي قامت أصلًا ضدّ الظلم والظالمين، بغضّ النظر عن انتماءاتهم الطائفية أو الدينيّة أو المناطقيّة. وهذه الوطنيّة المنشودة والموجودة، جزئيًّا ونسبيًّا، هي أحد أهمّ العوامل التي يمكن أن تساعد الثوّار السوريين على تجاوز العقبات المرتبطة بالجغرافية السياسيّة.
لقد تفجّرت الثورة السوريّة واستمرّت من خلال التغلّب على تاريخٍ طويلٍ من الخوف، وأفضى ذلك إلى نشوء بذور وطنيّةٍ سوريّةٍ، ينبغي التمسّك بها ورعايتها، من أجل تجاوز العقبات الناتجة من الجغرافية السياسيّة للمنطقة، وصولًا إلى قيام “سورية الوطن”، على أنقاض “سوريّة الأسد”.
“الديمقراطيّة ليست مجرّد الفوز في صناديق الاقتراع”
هذا ما قالته مؤخّرًا جين ساكي المتحدّثة باسم وزارة الخارجيّة الأميركيّة. وبغضّ النظر، سواء أكان الحقّ الذي يتضمنه هذا القول حقًا يراد به باطلٌ أم لم يكن كذلك، يتعين التشديد على معقوليّة هذا الحقّ وعلى حدوده معًا. وعلى صعيد الفلسفة السياسيّة المعاصرة، يمكن التمييز بين اتّجاهين رئيسين مختلفين بخصوص علاقة الديمقراطيّة بمسألة الاقتراع.
يشدّد الاتّجاه الأوّل على أهميّة عمليّة الاقتراع، إلى درجةٍ يجري معها اختزال الديمقراطيّة في هذه العمليّة، أو التقليل من أهميّة بقيّة العناصر، أو المبادئ المؤسِّسة لماهيّة الديمقراطيّة. والمتبنّون لهذا الاتّجاه يرون في “الانتخابات المفتوحة والحرّة والنزيهة جوهر الديمقراطيّة”، كما يقول صمويل هنتنغتون. وهذا التشديد على أهميّة عمليّة الاقتراع، يترافق عادةً مع تأكيد الأصول “الغربيّة” (الأوروبيّة – الأميركيّة) للديمقراطيّة. فهذا الاتّجاه يرى أنّ نشأة الديمقراطيّة حصلت عند اليونان، عندما بدأت أول عمليات الاقتراع السياسيّ.
أمّا الاتّجاه الثاني فيرى ضرورة فهم الديمقراطيّة من منظورٍ أوسع؛ يتضمّن عمليّة الانتخاب ويتجاوزها في الوقت نفسه. وبدلًا من تعريف الديمقراطيّة بدلالة الانتخابات، يجري تعريفها بدلالة النقاش والتشاور بين الفاعلين السياسيّين في بلدٍ ما. وتصبح الديمقراطيّة وفقًا لهذا الاتّجاه “حكمًا بالنقاش”، كما يشير أمارتيا سِن. وانطلاقًا من هذا التعريف، لا يمكن الحكم على مدى ديمقراطيّة نظامٍ سياسيٍّ ما انطلاقًا من دراسة عمليّات الاقتراع فيه، بل ينبغي عند دراسة هذه العمليّات وغيرها من عناصر الممارسة السياسيّة، أن نأخذ في الحسبان “الأجواء” المحيطة بهذه العمليّات وتلك الممارسة. وتتضمّن هذه الأجواء مدى توافر الحريّات الأساسيّة للأفراد والمجموعات، ومدى توافر المعلومات للمواطنين عن طريق وسائل إعلاميّةٍ مستقلّةٍ و”نزيهةٍ”، ومدى قدرة الأفراد والجماعات السياسيّة على الانخراط في نقاشاتٍ ومشاوراتٍ عامّةٍ، يمكن أن تساعد، من حيث المبدأ، على محاكمة الأفكار كلها، انطلاقًا من المصلحة العامّة التي يجري بناء مضامينها باستمرار من خلال هذه النقاشات والمشاورات. ووفقًا لهذا الاتّجاه، يمكن الحديث عن أصولٍ عالميّةٍ للديمقراطيّة؛ لأنّ التداول والتشاور والنقاش الحرّ في الشأن السياسيّ لم يقتصر تاريخيًّا على “الغرب”، وإنّما يمكن تتبع وجوده وجذوره في الحضارات “الشرقيّة” أيضًا.
أصبح لهذا النقاش الدائر حول علاقة الديمقراطيّة بمسألة الانتخابات حضورٌ كبيرٌ مؤخّرٌ في عالمنا العربيّ عمومًا، وفي بلدان “الربيع العربيّ” خصوصًا. ومن المفارقات الدالّة في هذا الصدد أنّ بعض المنادين بالديمقراطيّة الذين كانوا يشدّدون كثيرًا على مركزيّة فكرة الانتخابات الحرّة في العمليّة الديمقراطيّة، أصبحوا يقلّلون مؤخّرًا من شأنّ هذه الفكرة لمصلحة التركيز على فكرة التوافق بين القوى السياسيّة، والتشارك في صنع القرار، وبناء مؤسّسات الدولة وأسسها الدستوريّة والقانونيّة. وفي المقابل، تصرّ بعض التيارات السياسيّة ذات الشعبيّة الكبيرة نسبيًّا، على أنّ صناديق الاقتراع هي صاحبة القول الفصل في الخلافات القائمة بين الأطراف السياسيّة المتنازعة. وعلى الرغم من صعوبة إيجاد حلٍّ نظريٍّ أو عمليٍّ للاختلافات القائمة بين هذه الاتّجاهات المختلفة، فإننا نعتقد أنّه ينبغي التشديد على إمكانيّة التكامل بين وجهتي النظر، بدلًا من إبقائهما في حالة صدامٍ أو تعارضٍ بسيطٍ وأوّليٍّ.
ويتعين بدايةً التمييز – كما يفعل عزمي بشارة محقًّا – بين “تأسيس النظام الديمقراطي والإعادة المستمرة لإنتاج هذا النظام” لاحقًا. ففي حالة التأسيس، نحن أمام وضعٍ استثنائيٍّ بكلّ معنى الكلمة. وفي مثل هذا الوضع، لا ينبغي التسرّع في حسم الاختلافات بين الأطراف السياسيّة والمجتمعيّة عن طريق اللجوء إلى صناديق الاقتراع؛ إذ يمكن لهذه الصناديق “الديمقراطيّة” أن تنتج دساتير ومؤسّساتٍ غير ديمقراطيّةٍ، لتضمّنها إجحافًا بحقوق فئاتٍ واسعةٍ من الشعب (الأقليّات الدينيّة أو العرقيّة، أو النساء والأطفال، أو الفقراء والمهمّشين اجتماعيًّا عمومًا … إلخ). وفي هذه الحالة، لا يكون صندوق الانتخاب جزءًا من عمليّة بناء الديمقراطيّة أو بناء دولة المواطنة الحقوقيّة، بل يكون أداةً قمعيّةً لتبرير الممارسات والقوانين التي تتنافى مع الديمقراطيّة شكلًا ومضمونًا. فتصويت الأغلبيّة الساحقة من المواطنين لمصلحة حرمان بعض المواطنين من حقوقهم الأساسيّة بسبب انتمائهم الدينيّ أو الطائفيّ أو العرقيّ، لا يجعل من هذا الحرمان مشروعًا وفقًا لمبادئ الديمقراطية، بكلّ تأويلاتها المعقولة الممكنة. ولهذا يتطلب تأسيس الديمقراطيّة البحث عن التوافق بين مختلف الأطراف السياسيّة والمجتمعيّة، بغضّ النظر مبدئيًّا عن التفاوت في نسبها الانتخابية. كما يتطلّب تسوية الخلافات السياسيّة بالنقاش الحرِّ العامّ بما يسمح بقيام دولةٍ تكون وطنًا ممكنًا لكل المواطنين، بدلًا من أن تكون بلدًا حاضنًا لفئةٍ دون أخرى، واتّجاهٍ دون آخر. والأساس الذي ينبغي لبناء النظام الديمقراطي أن يتأسس عليه هو المواطنة المتساوية في كلّ الحقوق والواجبات الأساسيّة بين جميع المواطنين، بغضّ النظر عن انتماءاتهم الدينيّة أو العرقيّة أو الثقافيّة، وعن أوضاعهم الاقتصاديّة أو منزلتهم الاجتماعيّة. وصناديق الاقتراع ضروريّةٌ ومهمّةٌ للمصادقة على تأسيس هذا البناء، وبعد تأسيسه، لكنّها تفقد أهميّتها، بل ومشروعيّتها، بقدر ما تمسّ أساس هذا البناء أو تلك المواطنة.
في مرحلة تأسيس النظام الديمقراطي، يعرقل الصراع الحزبيّ أو الفئويّ على السلطة، أو محاولة الاستئثار بها والهيمنة عليها وعلى الدولة، عمليّة التأسيس هذه. وانطلاقًا مما حدث في مصر مؤخّرًا، استحضر بعضهم قول فرانسيس فوكوياما وغيره “لا ديمقراطيّة من دون ديمقراطيين”. ونحن نرى أنّ حضور الإنسان الديمقراطيّ لا يجري إلا في ظلّ نظامٍ ديمقراطيٍّ قائمٍ؛ أي “لا ديمقراطيين من دون ديمقراطيّة”. وعلى الرغم من إمكانيّة وجود تناقضٍ نظريٍّ بين هاتين الفكرتين، فإنّ الواقع العمليّ قد يسمح بالمصالحة بينهما وبتكاملهما، حين تأخذ عمليّة بناء النظام الديمقراطي صيغةً عمليّةً تسعى لتحويل البلد إلى وطن، والرعايا إلى مواطنين متساوين. فحينها فحسب، يمكن العمل على بناء الديمقراطيّة والديمقراطيّين معًا، وفي الوقت نفسه.
باحث سوري حاصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة بوردو في فرنسا. تطرّقت أبحاثه الأكاديميّة إلى مجالات متعددة، منها إشكاليّة المنهج في الهيرمينوطيقا والعلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، ومسائل الفهم والتأويل والتفسير في الهيرمينوطيقا عمومًا، وفي هيرمينوطيقا الحوار خصوصًا. يعمل حاليًّا باحثًا وكاتبًا مستقلًّا، ويهتمّ بالفكر السياسي الغربي والعربي، وبفلسفة الاعتراف بأبعادها الفلسفية والسياسية والاجتماعية والأخلاقية. كتب درويش في مجالات الفلسفة والسياسة والدين. ونشر عددًا من الأبحاث والمقالات باللغة العربية، في مجلة “تبيّن”، وعلى المواقع الإلكترونية التالية: “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات”، و”الأوان”، و”الحوار المتمدّن”.