السلفية في «الإمارات» المتناسلة للنظام في سورية
حازم الأمين
للمرء ان يعتقد، بعد أن يسمع «فضيحة» المؤتمر الصحافي الذي عقده الناطق باسم الخارجية السورية لإعلان نتائج «تحقيقات النظام» في مجزرة الحولة، أنه حيال مشهد احتضار عنيف، يستعين فيه المحتضَر بما دأب على الإتيان به طوال عقود من ممارسته السلطة، غافلاً عن مستجدات هائلة ما عادت تعينه. ثم إن الرجل المحتضر هذا فَقَدَ قدرته على الإدراك، فقبل ان يُصاب بما أصيب، كان يملك من النفوذ ما يمكّنه من القول: «ها انا ذا، أقول لكم ما أرغب في قوله، وعليكم ان توافقوا، ولا يهمني إن صدقتموني أم لم تصدقوني… إن فعلتم فأنتم أغبيائي الذين أحبهم، وإن لم تفعلوا فأبقوا على شكوكم داخلَ أنفسكم ولا تخرجوها، تعايشوا مع حقيقة أنكم خاضعون لسلطتي «الغامضة» والفاسدة، وناموا قريري الأعين».
«المقاتلون السلفيون هم من ارتكب مجزرة الحولة السورية»، هذه خلاصة ما قاله المقدسي، وهو اذ قال ما قال، كان يعرف تماماً ان أحداً لن يصدقه، وأنه لم يقله ساعياً للوصول الى قناعة أحد، إنما قاله كجزء من قولٍ دأب النظام على نطقه طوال أربعين عاماً من هُزال الخطاب. أربعون عاماً من الشعور بأن قوة الخطاب ليست في تماسكه إنما في قدرته على بعث الخوف في النفوس، ليست في سعيه للإقناع إنما في دأبه على تأسيس وعي مستعد للقبول وللتعايش مع الكذب الصريح.
لكن الخطاب الركيك والكاذب لا يكفي لتأسيس واقع، ولا بد من جهد مواز لإنتاج واقع ركيك وكاذب أيضاً، لا بد من استدراج المأساة وإحلالها في الواقع، وعندها يلتقط خطاب الكذب الصريح قوته وينطلق بها.
«لقد أنشأ السلفيون إمارتهم في بلدة الحولة»… ليست هذه العبارة الأثيرة يتيمة في خطاب الكذب الصريح، فقد سبقتها جهود لاستدراج السلفيين إلى إنشاء «إمارات» في الكثير من المناطق في سورية. وما أسهل ان يُستدرج السلفيون الى ذلك، وكم يملك النظام من خبرات على هذا الصعيد، خبرات تم تحصيلها في لبنان وفي العراق، وفي سورية نفسها، حتى يكاد المرء يعتقد بأن نظام «البعث» في سورية لا يجيد شيئاً على نحو إجادته استدراج الإسلاميين إلى إماراتهم، ومن بعدها الى قبورهم. وهو عمَّم خبراته هذه على الكثير من الأنظمة، حتى إن المرء ليحار في مَن الذي سبق الثاني الى السلفية، نظام «البعث» في سورية أم علي عبدالله صالح في اليمن؟
لقد افتتح نظام «البعث» خرافة «الإمارة الاسلامية» في مطلع الثمانينات في حماة، ثم اختبر نجاحها واعتبرها نموذجه في صناعة القوة الوهمية التي يملكها. من يقرأ وقائع المأساة السورية في ذلك الوقت، يشعر بأن النظام يُكرر اليوم حرفياً ما أقدم عليه آنذاك، ويبدو أن خبرته لم تتقدم لتواكب ما طرأ من مستجدات تعينه في إنتاج الواقع ذاته.
في حماة استجاب «الإخوان المسلمون» وجماعة الطليعة المقاتلة على نحو سهل رغبة النظام في السيطرة على حماة. رسموا سيناريوات ساذجة تحت أنظاره، بمساعدة صدام حسين، فكانت المأساة.
نقل النظام هذه الخبرة إلى لبنان، إنها «الإمارة الاسلامية» الأثيرة والعزيزة على قلب النظام، «إمارة حركة التوحيد الإسلامية» في طرابلس، والتي أعقب «تفكيكها» مأساة مصغرة عن حماة، وكرَّت بعدها سُبحة «الإمارات»، بدءاً من «إمارة الضنية» مطلع العام 2000، مروراً بـ «إمارة فتح الإسلام» في 2006، وصولاً الى إمارات حمص ودرعا وغيرهما.
وهناك ثوابت رافقت الإنتاج البعثي للإمارات الإسلامية، أولها القابلية السلفية المريبة للاستجابة للطلب السوري، وهي قابلية مبنية على مركّبين: الأول خبرات النظام في تجنيد السلفية في خططه، وكانت لهذا الأمر فعالية واسعة في كل من العراق ولبنان، واليوم يبدو ان الفعالية على هذا الصعيد انتقلت الى سورية. والمركّب الثاني يتمثل في هُزال المشيخة السلفية وتهافتها، بحيث يمكن رجالاً أُميين التحول الى «أمراء» ساعين لانتزاع البيعة، ذاك ان السلفية مأخوذة بالمروءة وما يرافقها من هذيان بطولي زائف أكثر مما هي مأخوذة بكتب «السلف الصالح»، وهو ما سهَّل على النظام اختراع «الأمراء» و»الإمارات» ثم معاودة قتلهم والقضاء عليهم.
نعم، يجري اليوم التأسيس لـ «إمارة» هي بمثابة فخ للثورة في سورية، وبدأ السلفيون بالتقاطر اليها، من شمال لبنان توجه العشرات، ومثلهم من الأردن، ومن العراق… وهم اليوم يقيمون في مناطق ومساحات في سورية انكفأ عنها النظام بإرادته الكاملة، وهو يجند آلته الإعلامية للترويج لها.
الإجابة عن احتمال نجاح النظام السوري في استكمال بناء الإمارة السلفية يجب ان تلحظ متغيرات جوهرية في بنيته وفي طاقاته، فالقوة «الوهمية» للنظام تداعت في الكثير من وجوهها، «البعث» اليوم صار يتيماً، ولم يجد في لبنان مثلاً سوى الموقع الإلكتروني الوحيد للتيار العوني في خدمة روايته الركيكة ان «ضحايا الحولة هم من الشيعة الذين قتلهم السلفيون»، وبدل ان يوظف قناة «الجزيرة» في خدمته على نحو ما كان يجري في أيام «الجهاد في العراق» وفي زمن «فتح الإسلام»، فـ»الجزيرة» اليوم ضده، وهو ما جعله يستعين بمنشق عنها ليعيد تقديم حكاية غريبة عجيبة عن ان «سكان الحولة شيعة قتلهم سلفيون».
فقد النظام معظم طاقاته الوهمية، واليوم يكاد لا يملك الا السلفيين وعطشهم «الغامض» أيضاً للظهور والتصدر، وهذا لا يكفي لبناء «الإمارة» الأثيرة، فالروايات المنقولة من سورية تكشف ان مقاومة حقيقية وثنائية الأهداف بدأ السوريون يُبدونها، وهم اليوم يقاومون النظام وسلفييه.
«الإمارات» المخترعة هذه تمارس نفوذها في مساحات غير مأهولة، فيما تشي وقائع بقتل الثوار «أمراء» (وليد البستاني نموذجاً)، بينما سارع آخرون إلى العودة، منهم اثنان ممن كانوا غادروا مخيم عين الحلوة في لبنان وعادوا اليه مؤخراً. أما في الأردن، فقد اختار ابن شقيقة ابو مصعب الزرقاوي اليمنَ لـ «يستشهد» فيه، بعد ان شعر بأن سورية التي تبعد كيلومترات قليلة عن مدينته «ليست بلد رباط»، وفق ما ورد في وصيته.
الحياة