السوريون في لبنان
فايز سارة
للسوريين علاقة مميزة مع لبنان تقارب علاقة اللبنانيين مع سوريا، أو تزيد عنها قليلا. والسبب في عمق العلاقة، لا يتصل بالروابط المعروفة القائمة بين البلدين والشعبين فقط، بل يتصل أيضا بطبيعة علاقات المصالح التي تربط بين الشعبين والبلدين، والتي رغم ما تعرضت إليه من عسف في فترة ما بعد استقلال البلدين في أواسط أربعينات القرن الماضي، فإن أحدا لم يستطع تجاوز تلك العلاقات أو إحداث تغييرات جوهرية فيها، وقد لا يكون ذلك ممكنا في وقت منظور.
لقد تحكمت عوامل سياسية واقتصادية وغيرها في علاقات السوريين مع لبنان، لعل الأبرز فيها، أن لبنان لعب على مدار عقود ما بعد الاستقلال دور رئة تنفس سياسي واقتصادي للسوريين، ومنذ الاستقلال كان لبنان ملجأ لسوريين عانوا من تداعيات التطورات السياسية والاقتصادية. ففي الخمسينات لجأ سوريون إلى لبنان بعيدا عن الصراعات السياسية أو نتيجة لها وهو ما فعله قوميون سوريون وشيوعيون وبعثيون، كما لجأ إلى لبنان أصحاب أموال من السوريين هربا من تأميمات المرحلة الناصرية بداية الستينات وشقيقتها البعثية في منتصف الستينات، وتكررت عمليات اللجوء في فترات لاحقة.
غير أن تطورين لاحقين دخلا على خط علاقات السوريين بلبنان منذ بداية السبعينات فازدادت تلك العلاقات أهمية، كان أولهما ارتفاع أعداد السوريين العاملين في لبنان والذين وصلت أعدادهم مئات الألوف لعبوا دورا مهما في اقتصاد لبنان وخاصة في قطاع الخدمات والبناء والزراعة، والثاني اعتماد السوريين على لبنان في توفير خدمات منها الخدمات المالية والمصرفية وسلع لم يكن السوريون قادرين على توفيرها في ظل اقتصاد مغلق ميز سنوات حكم البعث قبل أن يشرع السوريون باتجاه تحولهم الحذر نحو انفتاح اقتصادي.
ووجود السوريين وعلاقاتهم داخل لبنان وفي خلال سنوات الوجود العسكري السوري 1976 – 2005 تأثرا بصورة سلبية نتيجة ممارسات القوات والأجهزة السورية التسلطية، لكنه ومع خروج القوات السورية عقب اغتيال الرئيس الحريري، ثم الدخول في تسوية العلاقات السورية – اللبنانية واعتماد سفارتين في دمشق وبيروت، فقد تمت إعادة ترتيب العلاقات السورية – اللبنانية في إطار رسمي، مما ساهم في استقرار نسبي لعلاقة السوريين مع لبنان ولا سيما في موضوع العمالة السورية هناك وفي الاستفادة من خدمات لبنانية لم يتم توفر مثيلاتها في سوريا.
غير أنه وبعد انطلاق حركة الاحتجاج والتظاهر السورية في مارس (آذار) الماضي، طرأ تبدل نوعي على الوجود السوري في لبنان، إذ إن الضغوطات الأمنية والعمليات العسكرية التي شنتها القوات السورية على المناطق المتاخمة للحدود مع لبنان في ريفي دمشق وحمص، دفعت أعدادا من سكان تلك المناطق إلى اللجوء إلى المناطق اللبنانية هربا من القتل أو الاعتقال، أو سعيا لمعالجة من جروح أو رغبة في الحصول على أمان يفتقدونه داخل الأراضي السورية.
ورغم عدم وجود إحصائيات دقيقة لأعداد السوريين الذين لجأوا إلى لبنان نتيجة الأحداث، سواء من دخل لبنان بصورة شرعية عبر المنافذ الحدودية أو من عبروا الحدود خارج تلك المنافذ، فإن التقديرات تشير إلى نحو عشرة آلاف نسمة، أغلب هؤلاء كانوا من أهالي ريف حمص ولا سيما أبناء منطقتي تلكلخ والقصير، والقسم الأكبر من هؤلاء تمركز في شمال شرقي لبنان وفي منطقة وادي خالد، حيث تلك المناطق قريبة من بلدات النازحين، وتضم بعضا من أقاربهم ومعارفهم وممن تربطهم معهم مصالح اقتصادية.
وللوجود السوري الجديد طبيعته الخاصة من جهة وظروفه من حيث علاقته مع لبنان من جهة أخرى. ففي الجانب الأول، فإن المنتمين إلى هذه الفئة أغلبهم من النساء والأطفال وبعض الرجال وبينهم جرحى ومعاقون، وأغلب هؤلاء خرجوا في ظروف غير طبيعية، فلم تكن لديهم وثائق رسمية، ولم تكن لديهم أموال تساعدهم على تأمين احتياجاتهم، وبالتالي فقد كانوا بحاجة إلى مساعدات عاجلة تتعلق بتأمين احتياجات السكن والغذاء والكساء ولفترة قد تمتد أشهرا ولحين تبين النتيجة النهائية للثورة السورية، وفي الجانب الثاني، فإن هؤلاء باعتبارهم من ضحايا السياسات الأمنية ومحسوبين على معارضي النظام في سوريا فإن وجودهم في لبنان له انعكاس على الانقسام اللبناني بين مؤيدي سوريا وخصومها، وبالتالي فإن وجودهم هناك صار بمثابة قضية داخلية لبنانية.
وبخلاف الموقف الرسمي الذي يحاول تأكيد عدم الانحياز في الأزمة السورية، فإن مواقف 8 آذار وخصوصا حزب الله تتبنى الموقف السوري، وهذا يعكس نفسه على الموقف ليس من السوريين المعارضين للنظام ومنهم اللاجئون إلى لبنان، بل إزاء اللبنانيين المؤيدين للثورة السورية الذي ظهروا في اعتصامات قوبلت باعتصامات موازية من جماعة 8 آذار وأنصارها، بخلاف مواقف 14 آذار الذين ظهروا أقرب إلى تأييد الثورة السورية، وقد أظهروا قدرا من التعاطف مع اللاجئين السوريين إلى لبنان.
ولا شك أن دخول النازحين السوريين في لبنان على خط الداخل اللبناني وعلاقاته مع دمشق، كان بين الأسباب التي ساهمت في تردي أوضاعهم هناك رغم ما يبذله لبنانيون ومنظمات مجتمع مدني هناك من جهود للإغاثة والمساعدة، ولعل أبرز مظاهر تردي أوضاع السوريين هناك، تمثله تقييدات التنقل والعمل وحظر الاستفادة من الخدمات التي تفرضها السلطات اللبنانية عليهم، إضافة إلى سوء الوضع الأمني المحيط بهم والذي لا يمنع اعتداءات عليهم بما في ذلك خطف ونقل بعضهم إلى سوريا، وكله يضاف إلى صعوبات حياتية كبيرة تتجاوز السكن والإقامة إلى الغذاء والدواء والعمل والخدمات الصحية التي يحتاجونها أكثر في ظروفهم الاستثنائية.
ومما لا شك فيه، أن أوضاع هذا القسم من السوريين في لبنان بما تمثله معاناتهم الحياتية والإنسانية والأمنية، هي مسؤولية الدولة اللبنانية ليس بالاستناد إلى القانون الدولي فقط، بل بحكم العلاقات التي ربطت البلدين والشعبين في الماضي والتي ستظل تربطهما في المستقبل إضافة إلى تجربة طويلة من احتضان السوريين لإخوانهم اللبنانيين إبان محنهم الكثيرة في العقود الماضية، والأمر في هذا يجعل القضية في دائرة الاهتمام الذي يستحق جهدا كبيرا في لبنان لحين عودة هؤلاء إلى بلدهم.
الشرق الأوسط