السياسة التركية بين ظاهرتين متناقضتين
جهاد الزين
الانطباعات المتولّدة عن بعض الأحاديث مع أتراك ناشطين في الشأن العام تجمعك بهم مناسبة مهنية، والمقالات الوفيرة في الصحافة التركية تؤكّد أن الأزمة السورية بدأت تثير قلقا عميقا لدى النخب التركية، السياسية والإعلامية، لا سيما بعد التفجير الإرهابي في الريحانيّة. وهناك من يُخبِر عن “أحداث مقلقة” لا يُعلَن عنها.
لا تخطئ العين في مطار اسطنبول: حشود من المسافرين ليلاً نهاراً، ليس فقط أفواجاً لا تنقطع من السواح بل أيضا وحدانٌ و زرافاتٌ من رجال الأعمال ومندوبي الشركات على ما تُظهِر اليافطاتُ التي يحملها مندوبو وسائقو سيارات الاستقبال الواقفون عند مخرج قاعة تفتيش الجمارك.
حيويّة هائلة وأزمات سير خانقة هما دائما سِمَتا اسطنبول عاصمة الاقتصاد الـ 16 في العالم كما أعاد التذكير بذلك رئيس الوزراء رجب طيّب أردوغان خلال زيارته إلى واشنطن في النصف الثاني من الأسبوع المنصرم وبرفقته تسعون رجل أعمال تركياً اصطحبهم معه لاحقا إلى “سليكون فالي” في كاليفورنيا عاصمة ثورة الاتصالات الأولى في العالم وإلى مقر شركة “مايكروسوفت” تحديدا. لكن أردوغان وضع هذه المرة ترتيباً إضافيا للاقتصاد التركي هو أنه الاقتصاد السادس في أوروبا وهذا له معنى في زمن تأزّم حادٍ في العديد من اقتصادات دولها. كما أنه أيضا في الملف الاقتصادي اشتكى علناً من خلل كبير في الميزان التجاري بين تركيا والولايات المتحدة لصالح الأخيرة. والحجم الإجمالي الحالي للمبادلات التجارية بين البلدين يبلغ عشرين مليار دولار.
لكن وبسبب “هيمنة” الملف السوري على الجزء السياسي من المباحثات مع الرئيس باراك أوباما وكبار مساعديه يمكن القول بدون مبالغة أنه في الجزء السياسي غير الاقتصادي من زيارته شكّل رجب طيّب أردوغان “وفدا سورياً” وفي المقدمة وزير خارجيته أحمد داود أوغلو المنخرط منذ البداية في ملف الصراع السوري وشخصية أمنية هامة بعدما باتت المهمات “السورية” للاستخبارات التركية كبيرة منذ بدأت الثورة المتحوّلة إلى حرب أهلية و تزايدت هذه المهمات بعد “امتداد” الأزمة بشكلٍ خطر إلى داخل تركيا إثر تفجير الريحانية البلدة التركية القريبة من محافظة إدلب وذات الكثافة السكانية السُنّية داخل محافظة هاتاي(لواء اسكندرون) مقارنةً ببلدات أخرى ذات كثافة علوية في تلك المنطقة الواقعة جنوب غرب تركيا. بينما ضمّ الطاقم الاقتصادي وزيري الاقتصاد وشؤون الاتحاد الأوروبي وانضم إليه لاحقا نائب رئيس الوزراء الذي مثّل أردوغان في زيارة قام بها للداعية الإسلامي التركي البارز فتح الله غولن المقيم في بنسلفانيا والذي يعتبر اليوم إحدى أهم الشخصيات التركية المؤثرة في سيطرة “الإسلاميين” على صناديق الاقتراع في الانتخابات التركية والذي يرعى شبكة عالمية من المدارس يبلغ عددُها خمسماية مدرسةٍ داخل وخارج تركيا من إفريقيا إلى آسيا الوسطى إلى أوروبا وأميركا.
أتردّد على تركيا بشكلٍ شبه دوري منذ العام 1992 (وقبلها زيارة لأنطاكيا – اسكندرون عام 1974 ). الصورة الفوتوغرافية والتماثيل الثابتة التي تجدها أينما كان في تركيا وبأشكال مختلفة هي صور وتماثيل مصطفى كمال أتاتورك مؤسِّس الجمهورية. وإلى جانبها كان يمكن أن تشاهد صورة بالصدفة هنا أوهناك لزعيم سياسي ومسؤول كبير وبشكل محدود(ما عدا فترات الانتخابات التي تغلب عليها “فوضى” الصور). لكن هذه هي المرة الأولى التي ألاحظ فيها أنه باستثناء صور أتاتورك ترتفع بشكل غير تقليدي صور زعيم سياسي أو رئيس وزراء في الشوارع وفي محلات تجارية صغيرة وكبيرة هي صور رجب طيّب أردوغان. أكرّر: ليس بكثافة صور أتاتورك وإنما أيضا تنتشر صورة أردوغان بشكلٍ غير مسبوق لا يوحي بأنه مفتعل كليا ولو كان بعضه منظّما طبعاً من الجهاز الدعائي لـــِ”حزب العدالة والتنمية” (AKP). هذا المشهد الشارعي “الأردوغاني” لا أعرف إذا كانت له سابقة في عقود ما قبل التسعينات لشخصيات قيادية مرّت على الساحة والسلطة السياسيّتين كعصمت إينونو (وريث أتاتورك) وعدنان مندريس رئيس وزراء الخمسينات الشهير ولاحقا بولند أجاويد في السبعينات أو تورغوت أوزال في النصف الثاني من الثمانينات.
شيء ما يصبح “تأسيسيا” في صورة رجب طيّب أردوغان ربما لأنه بات فعلا أول من قاد نقل تركيا إلى “الجمهورية الثانية” بسيطرة مدنية (ذات لون ديني) على السياسة وبدون الوصاية السياسية للجيش. أو هو في طور استكمال الانتقال الدستوري.
لكن بالمقابل لا تخطئ العين القارئة للصحافة التركية والانطباعات المتولّدة عن بعض الأحاديث مع أتراك ناشطين في الشأن العام تجمعك بهم مناسبة مهنية (وكنتُ في اسطنبول مدعوّاً إلى ندوة تلفزيونية على قناة “التركية” الناطقة بالعربية ضمن برنامج “لقاءات تركية”) أن الأزمة السورية بدأت تثير قلقا عميقا لدى النخب التركية ولاسيما السياسية والإعلامية. وهناك من يؤكّد وجود ما يسمّيه “أحداث مقلقة” لا يُعلن عنها. وبعض المعلّقين في الصحافة ومراكز الأبحاث يتحدثون عن مأزق تركي بل عن مجازفة تركية في الموضوع السوري حتى أن أحدهم دعا في مقال له الرئيس الأميركي أوباما إلى “إنقاذ تركيا” عبر مساعدتها على التوصل إلى مخرج للمسألة السورية. وقد تحوّلت عملية الريحانية الإرهابية إلى منعطف في النقاش حول الدور التركي في سوريا وصارت المخاوف في الصحافة التركية أكثر تعبيرا عن نفسها.
المعضلة الحالية في السياسة التركية كما أراها كمراقب هي أن هذه السياسة تشهد ظاهرتين متناقضتين. الأولى دينامية داخلية بقيادة ناجحة لـ “حزب العدالة والتنمية” بقيادة رجب طيّب أردوغان بلغت ذروتها الآن في “مسار السلام” (كما يسمّونه في تركيا) الذي انفتحت آفاقُه العملية مع الأكراد فيما يبدو مسار تثبيت الحكم المدني راسخا. أما الظاهرة الثانية فهي بروز معالم تخبّط جدية في السياسة التركية في سوريا إلى حد أن التباين مع السياسة الأميركية في هذا الموضوع سيطر على جدول أعمال مفاوضات أردوغان في واشنطن. والأصوات الناقدة هنا تعتبر أن مصدر الخطأ هو الرهان المتسرّع على سقوط سريع للنظام السوري ورئيسه بشار الأسد. وملفّا العلاقات مع دمشق وبغداد يترابطان في النقاش العام الدائر في تركيا على أكثر من مستوى منها لدى بعض السياسيين والصحافيين وجود تركيا في قلب الصورة الطائفية للمنطقة كدولة “سُنّية” في مواجهة نظامين “شيعيّيْن”.
هكذا لن يكون سهلا إقتناع-وإقناع- رجب طيّب أردوغان بإظهار مرونة حيال الحل السياسي للمسألة السورية بعد أن أصبح من المتشدّدين فيها إن لم يكن الأكثر تشددا(بعد قطر أو مثلها) إلى حد الدخول في مخاطر مواجهة إقليمية… لن يكون ممكنا ذلك في وقتٍ هو في أعلى مراحل إحساسه بالقوة الذاتية الداخلية. أي باختصار: المجازفة أوالضعف أو التخبط في السياسة الإقليمية لاسيما في سوريا والعراق تقابلهما القوة الأكثر رسوخا في الوضع الداخلي خصوصا إذا تقدّم الحلُّ مع أكراد تركيا. ومن المهم ملاحظة أن النظرة السائدة حاليا في أوساط “حزب العدالة والتنمية” هي اعتبار الموضوع الكردي داخل تركيا والعلاقة مع أكراد شمال العراق ووضع أكراد سوريا عناصر متكاملة في سلّة واحدة باتت ترتبط ببعضها البعض في ما أصبح بعض المعلّقين الأتراك يسمّيه رهانا أردوغانياً على حلف تركي كردي؟
كان مسؤول الملف العراقي الأول ومسؤول الملف السوري الأول في فريق الرئيس أوباما، وهما تباعا نائب الرئيس جو بايدن ووزير الخارجية جون كيري، في واجهة المحادثات مع أردوغان في واشنطن. كلاهما رغم حرارة العلاقة الشخصية مع أردوغان، والتي تجلّت في زيارات عائلية قام كلٌ منهما بها لرئيس الوزراء التركي، يمثلان سياسياً الخيار الآخر الذي تنتهجه الإدارة الأميركية في كل من العراق وسوريا. في سوريا مع تأكيد واشنطن على تفضيلها الحل السياسي بالتعاون مع موسكو ولو أنها تعلن رغبتها في إقصاء الرئيس بشار الأسد، وفي العراق في مسايرة واشنطن للمصالح الأميركية وخصوصاً النفطية مع رئيس الوزراء نوري المالكي الذي أصبح خصماً لأردوغان وبالتالي عدم مجاراة واشنطن للاندفاعة التركية وخصوصا النفطية مع حكومة إقليم كردستان العراق.
وفي وقت تستمر المصالح الاقتصادية التركية على ضخامتها مع إيران وروسيا لا سيما في مجال استيراد الغاز الذي تنزعج واشنطن من التسديد التركي لثمنه إلى طهران عبر سبائك الذهب لتلافي العقوبات الدولية على طهران… في هذا الوقت تتواصل “الحرب بالوكالة” بين أنقرة من جهة، وطهران وموسكو من جهة ثانية، حربٌ ضاريةٌ على الأرض السورية.
هذه الحرب، التي تقرِّر حاليا مصيرَ أهم حلقة في النفوذ الإيراني في العالم العربي، وصلت على الأرجح إلى درجة سيتقرّر على ضوء نتائجها المصير السياسي لرجب طيّب أردوغان وربما كل “حزب العدالة والتنمية”.
النهار