السياسة والأخلاق
أكرم البني
تثار العلاقة بين السياسة والأخلاق باهتمام لافت اليوم في أجواء تزدحم بصور العنف والقتل وتشهد تنامي لغة التهديد والوعيد ومنطق والقوة والمكاسرة في رسم مسارات حياتنا، ربطاً مع تنامي التحلل من الضوابط والقيم الأخلاقية وإباحة كل الطرق والوسائل لتحقيق المرامي والأهداف السياسية.
إذا كانت السياسة في تعريفها البسيط طرائق قيادة الجماعة البشرية وتدبير شؤونها لما يعتقد أنه خيرها ومنفعتها، فالأخلاق هي مجموعة القيم والمثل الموجهة للسلوك البشري نحو ما يعتقد أيضاً أنه خير وتجنب ما ينظر إليه على أنه شر، وكلاهما، السياسة والأخلاق، تستهدفان تمليك الناس رؤية مسبّقة تجعل لحياتهم هدفاً ومعنى، وبالتالي تلتقيان على الدعوة لبناء نمط معين من المبادئ والعلاقات الإنسانية والذود عنه، لكنهما تفترقان في أن طابع المبادئ والعلاقات التي تعالجها السياسة تختلف نوعياً عن تلك التي تتناولها الأخلاق وصلت إلى حد التعارض في ثقافتنا السياسية السائدة، وبات من الدارج أن يتنكر المناضل السياسي لجميع الفضائل الأخلاقية وتبرير ذلك بمشروعية ونبل الهدف الذي يسعى إليه!!..
طبعاً لا يقصد بالأخلاق في ميدان السياسة فقط حزمة القيم الشائعة عن الصدق والوفاء والشجاعة على أهمية هذه القيم وضرورتها في العمل السياسي النظيف وإنما أيضاً حقيقة المسافة بين الأقوال والأفعال وتلك العلاقة الشائكة بين الهدف السياسي والوسائل المفضية إليه، أو بمعنى آخر ماهية التحديات والمعايير الأخلاقية التي تعترض أصحاب غاية سياسية لردم الهوة بين ما يدعونه ويعلنونه وبين مسلكياتهم وممارساتهم العيانية، وأيضاً عند اختيارهم وسيلة نضال ورفض أخرى، هل تستند هذه المعايير إلى محتوى الغاية ومشروعيتها أم إلى القيم الإنسانية العامة؟! وبالتالي إلى أي مدى تبيح عدالة الهدف السياسي عند أصحابه استخدام ما يحلو لهم من وسائل غير أخلاقية وغير شريفة لتحقيقه، أو تشجعهم كي يدوسوا بأغلظ الأقدام على خير ما راكمته البشرية من قيم ومثل؟!.
عند التمييز في البنية الأخلاقية بين الفرد المندفع وراء حاجاته وأهوائه ونزواته عن الآخر الذي يصبو لقيم الخير والحق والعدل يمكن أن نقدر كم هي المعركة شاقة وقاسية لنصرة الأخلاق عند المناضل أو المتنطح للعمل في الشأن العام، ولقلب ما أشاعته الثقافة السائدة من قيم سلبية تجد في النفاق والجبن والغدر أساليب ناجعة وتعتبرها أحد وجوه الحنكة والدهاء السياسيين.
وعلى رغم من أن الأخلاق والسياسة ماهيتان مختلفتان ويصعب احتواء إحداهما للأخرى، إلا أنه لا يصعب كثيراً تكاملهما في تفاعل متبادل ترعاه أجواء الحرية والاعتدال، وهنا يجدر القول إن الفضيلة السياسية أو الأخلاق في السياسية لا يمكن أن تنمو عيانياً في مناخات القهر والتطرف والعنف أو مع غياب حقوق المواطنة والعدالة والمساواة والمشاركة، ما يجعل الديمقراطية الخيار الوحيد لإرساء قواعد سلوك سياسي تنظمه القيم الأخلاقية في مواجهة أخلاق العنف وشيوع أساليب التنكيل والقتل لحسم صراع المصالح السياسية، وما يزيد الأمر جدوى أن ثورة الاتصالات وسرعة تبادل المعلومات شجعت الناس عموماً على التفاعل مع الأحداث أنى كانت، وبدأ شعور التضامن المشترك حول القيم الإنسانية يتنامى بصورة ملحوظة، ما أنعش الثقة بإمكانية بزوغ دور منتظر يحاصر الأساليب غير الأخلاقية والنزوع إلى العنف والحروب، قد يتوج بإنضاج قانون عالمي عادل تدعمه مؤسسات وآليات ناجعة لنصرة حقوق الناس المتساوية وأيضاً رعاية العلاقات بين الجماعات البشرية على أساس التنافس السلمي والاحترام المتبادل ولكبح جماح العنف والقتل.
إن تغييب حريات البشر واستباحة حقوقهم هي مقدمة لا بد منها لقتل بنيتهم الأخلاقية الإنسانية، وبالمقابل فان إرساء عقد اجتماعي على أسس الديمقراطية وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان يعتبر المناخ الأمثل لبناء علاقة صحية بين السياسية والأخلاق تضمن احتكام كليهما لنظام مشترك يحتويهما وربما يتجاوزهما.
فالاستيلاء على السلطة والاحتفاظ بها خدمةً لمصالح فئة أو جماعة سياسية على حساب جموع الناس ورغماً عنهم، تقتضي استعمال ما يلزم من قهر واستبداد لفرض إرادة سياسية من علٍ يروج لها على أنها الخير العام، وتعاد من منظور أخلاقي صياغة التسميات والتوصيفات ليصبح كل معارض لهذا النظام أو ذاك أو مناهض لمصالح سادته، شراً مطلقاً لا يستحق الوجود وحتى الحياة. وبمعنى آخر يقلب الاستبداد كل المثل الخيرة والقيم الإنسانية كي يديم امتيازاته ويحمي مكاسبه ليعمم أخلاق الخنوع والذل والدجل والوشاية، مسوغاً أي شيء لحماية سلطانه والتصدي للمخاطر التي تهدده، ومطلقاً العنان للتحكم في شؤون الرعية بلا خشية من عقاب أو حساب، فتصبح حياة كل إنسان وكرامته رخيصة وسهلة المنال. الأمر الذي نبه إليه الكواكبي قبل أكثر من مائة عام في نص لا يزال يحتفظ بحيويته ودفئه حتى اللحظة الراهنة : ” بأن الاستبداد يتصرف في أكثر الأميال الطبيعية والأخلاق الحسنة، فيضعفها أو يفسدها.. هو يقلب القيم الأخلاقية رأساً على عقب ليغدو طالب الحق فاجر وتارك حقه مطيع، والمشتكي المتظلم مفسد، والنبيه المدقق ملحد، والخامل المسكين صالح أمين. ويصبح تسمية النصح فضولاً والغيرة عداوة والشهامة عتواً، وأيضاً يغدو النفاق سياسة والتحايل كياسة والدناءة لطف والنذالة دماثة، وأنه أي الاستبداد، يرغم حتى الأخيار من الناس على ألفة الرياء والنفاق، وأنه يعين الأشرار على إجراء غيِّ نفوسهم آمنين من كل تَبِعة، ولو أدبية، فلا اعتراض ولا انتقاد ولا افتضاح “. ولعل هذه الكلمات هي شرح موسع لما قاله أرسطو في كتابه السياسة عن ” الطغيان الذي يحكم حسب نزواته بلا قوانين أو قواعد، حكم أقلية وحكم تضليل ومنافع ذاتية ولا يرمي إلى مصلحة من المصالح العامة “!!..
بالتوازي من المفيد تلمس مفارقة مذهلة بين ما يروى عن هتلر بأنه كان يخفي تحت وسادته كتاب “الأمير” لمكيافيللي وكأنه يريد أن ينام هانئاً فوق وصيته الشهيرة ” الغاية تبرر الوسيلة ” ويسوغ لنفسه استخدام شتى الأساليب وأكثرها انحطاطاً للتنكيل بالبشر وإرهابهم، وهي الحكاية ذاتها عند ستالين وموسوليني وفرانكو وغيرهم من عتاة الديكتاتورية! وبين مقولة توليستوي الشهيرة ” الشر لا يقتل الشر كما النار لا تطفىء النار”، أو سلوك بعض رواد الكفاح السلمي والإنساني، كالمهاتما غاندي ومارتن لوثر كينغ، وقد نجحوا بغنى قيمهم الأخلاقية في إيقاظ ضمائر الناس وحفز هممهم لمقاومة الظلم والاستبداد!!. ما حدا بالكثيرين إلى القول إن الشعب الهندي ما كان ليهنأ ببلاده ديمقراطية محررة لولا أسلوب النضال السلمي الذي أشاعه غاندي طريقاً رئيسة نحو التحرر الوطني.
في الماضي القريب، أدى انهيار النموذج السوفييتي وانحسار دور التعبئة الإيديولوجية وشيوع الأفكار الديمقراطية وقيم الحريات وحقوق الإنسان إلى تنامي حس إنساني عام راغب في محاكمة أساليب الصراع السياسي ومعايرتها أخلاقياً، ولم يعد مقبولاً اللجوء إلى وسائل غير مشروعة إنسانياً أو لا ديمقراطية من أجل تحقيق هدف أو غرض سياسي ما، الأمر الذي ساعد على حضور موقف عالمي مؤثر يأنف العنف ويضع حياة الإنسان وحريته في مركز كل اهتمام.
تلقى هذا الوعي الحضاري، قبل أن ينضج أو يستقر، صفعة قوية وقد نجحت عقلية العنف والقوة في جر البشرية مرة أخرى إلى ماضيها المؤلم، إلى أخلاق الحروب والقتل، والى المناخات التي تسوغ لكل طرف استخدام مختلف الوسائل الإجرامية ضد الآخر. وشاع من جديد المنطق القائل بأن قهر الشر، هكذا يسمي كل طرف الطرف الآخر، لا يمكن أن يتم إلا بالقوة والعنف وبأساليب الشر ذاتها، وأن أي ممارسة هي فعل مسموح ومباح مهما وصلت من البؤس والانحطاط الأخلاقي طالما تقود إلى النصر، ما أظهر العالم كما لو أنه عاد إلى نقطة الصفر والى شرائع الغاب، وبدا أن لا خلاص من تلك اللعنة الأبدية التي تفصل الأخلاق عن السياسة وتبيح لهذه الأخيرة التحلل من أي وازع أو ضمير !!.
قد تؤمن فئة ما بأن ما تبيحه من وسائل نضالية هو حق مشروع لها ضد عدو تعتبره دموي وظالم، لكن لم تعد المسألة اليوم إذا كان هدفها رفع الظلم وضمان الحقوق مسألة ثأر أو رد فعل أو قضية اجتهاد خاص، فئوي أو ديني، بل ترتهن إلى قاعدة أخلاقية إنسانية عامة بات الاحتكام إليها من مصلحة أصحاب المظالم والحقوق والبشرية جمعاء، وربما هو قدر الشعوب الضعيفة والمتخلفة الاستقواء بهذه القاعدة الأخلاقية واللجوء إلى أساليب صحية تنسجم مع أهدافها في الحرية والتحرر، لتكسب إنسانها أولاً وتحصّن بيتها جيداً وتربح تالياً معركتها السياسية، ضد عدو هو غالباً مدجج بأعتى أنواع الأسلحة، فليس ثمة غاية مهما بدت سامية أو مقدسة يمكن أن ترتفع فوق حق الإنسان المتساوي في الحياة والحرية والكرامة وبالتالي من الخطأ أن نحرر وسائل الكفاح من معاييرها الأخلاقية ونقرنها فقط بما تسوغه المصالح والغايات الوطنية أو الطبقية أو الطائفية الضيقة مهما كانت عادلة أو مشروعة، فالوسائل والغايات حلقتان مترابطتان وكل منهما شرط للأخرى، وإنجاز الهدف العادل يتطلب صحة اختيار الوسائل التي تخدمه وتلائمه، وبغير ذلك ستفضي الأمور إلى تشويه الهدف وهزيمة أصحابه في نهاية المطاف، بدليل الانهيارات المروعة في غير بلد طامح نحو الحرية جراء اعتماد عملية البناء على وسائل القمع والإرهاب.
وبعبارة أخرى فإن الوسيلة النضالية هي قيمة أخلاقية في حد ذاتها، وحامل القيمة الإنسانية الأعلى في عالم اليوم، عالم القرية الصغيرة، يملك من فرص النجاح الكثير لإجبار العدو على الخضوع للقواعد الأخلاقية والقانونية وإكراهه على تنحية وسائل القتل وأساليب العنف والتدمير جانباً. ما يستدعي من قبل طلاب الحرية مزيداً من الصبر والمثابرة لربح المعركة في الحقل الأخلاقي، ربطاً مع اختبار وسائل النضال الديمقراطي بكل صورها وأشكالها، كطريق رئيسة لإظهار إرادة الشعب وعزمه الأكيد على مقاومة الظلم والاستبداد والاستعمار، وتحضرنا هنا نتائج الكسب الأخلاقي والإنساني ومن ثم السياسي الذي حققته انتفاضة الحجارة بمثابرتها وصبرها وجلدها لترد على كل من يعتبر أن هذه الطريق مضيعة للوقت والتضحيات أو دعوة للخنوع والاستسلام!!.
لقد ابتلت مجتمعاتنا بمنطق خاص في خوض الصراع السياسي فرضه مدعو الوصاية على الناس والوطن، وجوهره ليس التنافس الصحي لاختيار الأفضل في إدارة المجتمع والأكثر كفاية للتعبير عن مصالح فئاته وتكويناته المتعددة بل مبدأ القوة والجبروت ووسائل القمع والإرهاب، وصارت المعادلة الشائعة في ممارسة السياسة هي اللجوء إلى الردع الأمني والمسارعة في حال الاختلاف والتعارض مع شخص أو جماعة ما، إلى تعطيل دوره أو دورها بالتزوير والتشهير أو بالقمع والسجون وحتى بالإقصاء والإلغاء وأحياناً القتل. وبرغم بعض البشائر التي تشير إلى تنامي روح جماعية ضد المنطق السائد، والبدء بتداول معايير جديدة تبغض التحلل الأخلاقي في السياسة وأساليب القمع والإقصاء وتشجع على تمثل القيم الإنسانية واحترام الأخر ووسائل التعبير السلمية والمدنية في إدارة الخلافات، فإننا لا زلنا نحتاج إلى عملية سياسية وثقافية كبيرة، تطلق آفاقاً جديدة لصالح الحياة والحقوق الإنسانية في مواجهة غطرسة المصالح الضيقة وحماقة القوة وتدشن العمل على مشروع نهضوي جديدلا مكان فيه للفصل بين السياسة والأخلاق، ودونه يصعب انتشال مجتمعاتنا العربية من الحالة البائسة التي وصلت إليها.
موقع الاوان