قبل أن نتحدّث عن علاقة السيلفي الوثيقة بالتوثيق، علينا أن نتطرّق إلى بعض التعريفات المعتمدة عالميًا، والتي لا بدّ من الاتفاق عليها لإدراك هذه العلاقة. ويعد تعريف قاموس أكسفورد الأكثر تداولًا والأكثر مصداقية في جميع أنحاء العالم، إذ عرف السيلفي: صورة ملتقطة ذاتيًا عبر الكاميرا الأمامية للهواتف الذكيّة أو الويب كام، ومنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعية، ويتمّ نشر هذه الصورة لاستخدامها كصورة رئيسية في الملف الشخصي أو لإثبات الوجود في مكان معين، أو إلى جانب أشخاص معينين أو حتى التعبير عن حالة نفسية معينة، وتعدّ الصور التي التقطت بواسطة كاميرا تقليدية – أي بكاميرا غير كاميرا “الويب كام” أو الكاميرا الأمامية للموبايل – صور سيلفي إذا ما استخدمت المرآة أثناء الالتقاط الذاتي للصورة لاختيار الكادر والشكل النهائي للصورة من قبل المُصوِّر/ المصوَّر.
وبحسب التعريف، فإن أوّل صورة تنتمي لأشكال السيلفي تعود زمنيًا إلى ما قبل اختراع تقنية الكاميرات الأمامية بكثير، وأرجعت الدراسات الأولية تاريخ السيلفي لعام 1917، إذ اعتبرت الصورة التي التقطها المصوّر الأسترالي توماس بيكر لنفسه بواسطة المرآة، وهو يرتدي الزي العسكري الكامل وأمامه كاميرا كوداك والأشرطة والأفلام أوّل صورة سيلفي التقطت في التاريخ؛ إلا أن الدراسات التاريخية عادت لتؤكّد فيما بعد أن تاريخ أوّل صورة سيلفي يعود إلى القرن التاسع عشر، وتحديدًا إلى سنة 1837، حيث قام الصيدلي الأميركي روبرت كورنيليوس، المهووس بالتصوير، بالتقاط صورة لنفسه، ومن غير المستبعد أن يكتشف المؤرّخون صور سيلفي التقطت قبل هذا التاريخ في وقتٍ لاحق. وأما في سورية فلم تجرِ أي منظمة أو مؤسّسة أكاديمية دراسة لمعرفة تاريخ أوّل صورة سيلفي في سورية، ولكن وجودها بالتأكيد سبق انتشارها على مواقع التواصل الاجتماعي بزمن ليس بقصير.
إن السبب الذي يجعل من تاريخ السيلفي وتقصيه أمرًا ليس بيسير هو أن أغلب أولئك الذين قاموا بالتقاط هذا النوع من الصور كانوا من المهمشين، ولم يعتبر أصحاب هذه الصور وذووهم أن هذا النوع من الصور سيلقى مكانة مهمة في يوم من الأيّام، لتحتل كلمة سيلفي مواقع التواصل الاجتماعي منذ عام 2013 كأكثر الكلمات المستخدمة، ولتقام معارض فنية مختصة بصور السيلفي ابتداءً من 2017؛ ولكن من الممكن أن ندرك بأن استخدام المهمشين لهذا النوع من الصور ما هو إلا دليل على رغبتهم في توثيق حياتهم الخاصة.
وقبل أن نسهب في الحديث عن الفيديوهات والصور التي أنتجها المهمّشون، علينا أن نوضّح من نقصد بالمهمشين؛ والمهمش يكتسب معناه من خلال التعارض أو الابتعاد عن المركز، والذي لا يعتبر بدوره عنصراً ثابتًا، فهناك عدة أشكال للمركز يختلف معنى التهميش بحسب اختلافها، وهي: المركز الاقتصادي، المركز السياسي، المركز الاجتماعي والمركز الثقافي. وكلما ابتعد الإنسان عن أحد هذه المراكز أو عنها جميعًا كان أكثر تهميشًا.
وحاولت السينما الوثائقية المستقلّة أن تعبر عن المهمّشين بصورة مختلفة عن الصورة النمطية التي رسمها لهم الإعلام الرسمي المركزي؛ إلا أن أنا المخرج كانت حاضرة في هذه الأفلام أكثر من حضور أنا المهمشين الموجودين على الشاشة، لأن هذه الأفلام أتاحت للمهمشين الفرصة للتعبير عن أوجاعهم وأفكارهم، ولكنها لم تعطِ المهمّشين الحق بالمشاركة في كتابة سيناريو الفيلم ولم يختاروا الكادر الذي يرغبون في الوجود فيه بأنفسهم، ولم يشاركوا بعمليات المونتاج وفلترة الإضاءة والصوت، ولم يكونوا أصحاب القرار بنشر هذه الفيديوهات وباختيار الفئة الاجتماعية والثقافية التي يرغبون في توجيه رسائلهم إليها؛ فاختيار شكل الفيلم ومضمونه ومكان العرض بقي من حق المخرج إلى أن أتاحت تقنية السيلفي ووسائل التواصل الاجتماعية الفرصة أمام المهمشين للتحكم بالفيديوهات التي تعبّر عنهم.
فالمثقّفون تبنوا قضايا المهمّشين في سائر أعمالهم الفنية والأدبية، وحسب ما يقول عبد الرحمن منيف، فوظيفة الفنان أو المثقف أن يكتب من خلال الأدب والفن تاريخًا موازيًا للتاريخ الذي يكتبه الساسة والعسكر، فالتاريخ لا يكتبه المهمّشون، ولذلك يحاول المثقفون أن يكتبوا عن الهوامش، ولكن تبقى كتاباتهم متعالية، ونابعة من المركزية الثقافية، وربّما تكون الأشكال الجديدة من الفنون التي أنتجها المهمشون كالفيديوهات غير الاحترافية وفيديوهات السيلفي والتدوين الافتراضي أكثر قدرة على كتابة تاريخ الهوامش.
إن المتعارف عليه أن حقوق الملكية تعود عادةً للمصوِر في أي عمل فنّي يقوم به وليس للمُصوَر، ولكن التساؤل عن مدى شرعية الاعتراف بحقوق ملكية المُصوَر بالصورة أو الفيديو الذي يتناول حكايته أمر مشروع للنقاش، ليس للمثقفين وحسب، وإنما يتم تداوله في الشارع السوري والفنون الشعبية، ولقد تم طرحه في المسلسل التلفزيوني “تشيللو” الذي أنتج عام 2015، حيث يختلف رجل الأعمال تيمور تاج الدين، والذي جسد شخصيته تيم حسن، مع مخرجة الأفلام الوثائقية الشابة، والتي جسّدتها الممثلة المصرية يسرا اللوزي، على الطريقة التي يجب أن يظهر بها تيمور في الفيلم الوثائقي الذي تقدمه عنه، فهو يحاول أن يجعل الفيلم يقدم الصورة التي يرغب هو بالظهور فيها، بينما هي تحاول أن تبحث عن أناها الفنية في ظل محاولات اختراق المهمّش الثقافي لكل عناصر الفيلم الوثائقي الفنية؛ ولا يبدو تزامن إنتاج هذا المسلسل مع العام الذي شهد انتشار ظاهرة فيديو السيلفي في سورية مجرّد مصادفة.
جيل
