صفحات سوريةعمر قدور

السٍلمية كادّعاء أقلوي

 

عمر قدور

(إلى الصديق ياسين الحاج صالح)

لم تتوقف عسكرة الثورة السورية عن إثارة الجدل والانقسامات حولها، على الرغم من ضعف تأثير هذا الجدل على المجريات الميدانية، وعلى الرغم من فرض الشق المسلح نفسه كمكوّن أساسي من مكونات الثورة، والاعتراف المتزايد للقوى الدولية به. ذلك قد يدعو إلى اعتبار النقاش برمته بلا طائل ما دام لن يقدّم أو يؤخر في مجرى الأحداث، إلا أن تكريس الانقسام واستمرار الجدل حول العسكرة لا بد أن يعبّر من جهة ثانية عن وظيفة ما يؤديها، حتى إن كانت وظيفته حرف الجدل عن قضايا أخرى، أو استخدامه كذريعة للتمويه على حقيقة المواقف السياسية ودوافعها.

كان الصديق ياسين الحاج صالح سبّاقاً إلى تفنيد “أشكال النزعة السلمية في الثورة”، وبحسب مقاله الذي يحمل هذا العنوان، نُشر في جريدة المدن الالكترونية بتاريخ 25/2/2013، يعزو النزعة السلمية إلى ثلاثة دوافع فكرية؛ سلمية مبدئية، وسلمية عملية، وسلمية كيدية. وفي التقاط بارع لسمات أصحاب النوع الأخير يرى أنهم “محاربون أيديولوجيون عنيفون، لا يمتنعون عن عنف لفظي أو رمزي حيال خصومهم”. وهي علاوة على ذلك سلمية طفيلية، “لأن حياة تفكير ونقاش هذا التيار لا تعتمد على فاعليته الخاصة، أو على مساهمة فعلية من جانبه في الصراع الفعلي، بل هو يعتاش على المواقف المتكونة من هذا الصراع”. إلا أن الصديق ياسين يعفّ في هذا المقال عن ذكر بعض دوافع أصحاب هذه النزعة، بخاصة الدوافع الطائفية والأقلوية التي يزداد تأثيرها من دون أن تعلن عن نفسها صراحة.

إلى وقت قريب، على سبيل المثال، كان مثقفون كرد ينتقدون بشدة عسكرة الثورة ويشيدون بعدم انخراط الكرد في هذا الجانب، وصولاً إلى وصفهم الكرد بـ”شعب السلمية”. هذه الرؤية كانت تتجاهل تماماً وجود ميليشيات كردية مسلحة تابعة للجناح السوري من حزب العمال الكردستاني PYD تحت مسمى “لجان الحماية الشعبية”، وتغض النظر حتى عن دور هذه الميليشيات في قمع التنظيمات الكردية الأخرى وفي قمع بعض التظاهرات المناوئة للنظام بإطلاق النار عليها؛ كل ذلك تحت دعوى “الحماية الذاتية” التي يبدو أنها كانت مقبولة من هؤلاء “المعارضين” وإن بتسهيل وتواطؤ من النظام. إلا أن هذه التنظيرات ستسقط تماماً مع مشاركة الميليشيات في بعض المعارك جنباً إلى جنب مع كتائب الجيش الحر في مدينة حلب ضد قوات النظام، وكانت قبل ذلك تلقت ضربة في الصميم عندما تصدت الميليشيات لبعض الكتائب التي حاولت السيطرة على رأس العين، وآنذاك تحول دعاة السلمية أنفسهم بضراوة إلى منافحين عن خيار الدفاع العسكري عن المدينة!

حينها لم تخلُ دعاوى مثقفي السلمية الكرد من الذرائع التي سنراها لدى أقلويين آخرين، ومنها أن المناطق الكردية تحتضن عدداً كبيراً من نازحي المناطق الساخنة، وهي بالتالي تلعب دوراً إغاثياً ضرورياً، وينبغي استبعادها من دائرة انتقام النظام، القادم ولا بد إن شاركت في العصيان المسلح. يُضاف إلى ذلك دائماً أخذ العبرة من الدمار والتهجير اللذين تعرضت لهما المناطق التي أتى منها النازحون، من دون إخفاء اللوم الشديد لكتائب الجيش الحر لأنها تسببت في مأساتهم لعلمها مسبقاً بوحشية وهمجية النظام. ليست المسألة هنا أن دعاة السلمية أولئك لم يظهروا الغيرة ذاتها عندما كانت مناطق النازحين تُقصف بضراوة، بل أيضاً اعتبارهم المشاركة في أعمال الإغاثة قسط كافٍ للمشاركة في الثورة، مع أن الأخيرة ينبغي أن تعبّر عن موقف إنساني، لا سياسي بالضرورة، كما هو الحال لدى بعض دول الجوار التي استقبلت مئات الألوف منهم.

لكن التمثيل السياسي الأهم للتيار السلمي نراه في هيئة سياسية معارضة تنسب لنفسها الأخذ بمصالح الأقليات، وبذلك تغمز من قناة الذين يؤيدون الخيار المسلح بوصفهم معارضة سنية طائفية، أي أن الهيئة المذكورة تكاد تنازع النظام على دعواه في حماية الأقليات، بالانطلاق من المقدمة نفسها التي تلصق بالثورة تهمة الطائفية. ولعل أخطر ما تفعله هذه المقولة، إذ تتبناها جهة معارضة، لا يقف عند إثبات رؤية النظام، وإنما يتعداها لتعميق الانقسام العمودي في المجتمع بين أكثرية سنية تتوسل العنف وأقليات مسالمة تتوسل السبل المدنية والديموقراطية. المسألة هنا لا تقع ضمن إطار النقاش النظري، فالحق أن هذا التيار استقطب فعلاً نسبة كبيرة من المعارضين ذوي الأصول الأقلوية، بخاصة أولئك الذين يطمحون إلى تغيير في النظام ويخشون سقوطاً دراماتيكياً له.

لن نجافي المنطق إن اعتبرنا النزوع الأقلوي إلى السلمية يوافق تماماً التفكير والمزاج الأقلويين، إذ من المتوقع أن يؤدي انخراط الأقليات في دائرة العنف إلى أذى تفوق نسبته تلك النسبة التي تتأذى بها الأكثرية. لكن مثل هذه الترسيمة تفترض انقساماً طائفياً يضع ما يحدث في سوريا في مرتبة الحرب الأهلية، وهو ما يرفضه الكثيرون في سوريا بمن فيهم ذوي الأصول الأقلوية، وإن استدعى ذلك وصم أصحاب الخيار المسلح بالطائفية، فيصبح السلاح من وجهة النظر هذه طائفياً، بينما يكون الخيار السلمي وطنياً! غير أن التخوفات من الخيار المسلح لا تعبّر عن نفسها بشفافية، فهي تكاد أن تطمس نهائياً الدور الذي لعبه عنف النظام في دفع الثورة إلى الخيار المسلح، وكأنما الأخير هو محض انحراف ذاتي لها. على الصعيد نفسه لا يلحظ أصحاب المزاج الأقلوي عدم مشاركة الأقليات في الحراك السلمي للثورة الذي استمر لأشهر، باستثناء أفراد لا يشكلون نسبة فاعلة منها، الأمر الذي أدى إلى إغلاق أي أفق أمام عصيان مدني شامل. في الخلط بين الأسباب والنتائج سيصبح الاستنكاف عن المشاركة الحثيثة في الثورة إثباتاً لأحقية المواقف المتحفظة تجاهها أصلاً، وبالتالي تكون “انحرافات” الثورة قدراً محتوماً لم تساهم سلبية هؤلاء فيها، على الرغم من أنهم لا الآن ولا من قبل يقبلون بوضع أنفسهم خارج إطارها تماماً، بل على الأغلب يرون أن الثورة هي التي خرجت عنهم.

ليس جديداً في سوريا ألا تُقال الأمور كما هي حقاً، فالنظام الأمني أرسى تقية سياسية يصعب التخلص منها سريعاً. على سبيل المثال؛ من حق الجميع أن يشعروا بذلك الحرص على أرواحهم وممتلكاتهم أمام البطش الاستثنائي للنظام، وقد يتخذ الخوف مسارب مناطقية أو طائفية أيضاً؛ ذلك كله في حكم المبرر إنسانياً، على ألا يتقنع بدعاوى مضللة عن فحوى الموقف الأساسي، وألا يتقنع خصوصاً بالمصلحة الوطنية العامة التي لا يجري الانتباه إليها إلا عندما يدنو الخطر من الحيز الاجتماعي الضيق. فالذين لم يقفوا في وجه النظام عندما كانت قواته تقتل المتظاهرين السلميين يصعب تصديق سلميتهم الموجه خصيصاً إلى الجيش الحر، هم بذلك يمنحون الشرعية لعنف النظام، ويمنحون الأخير شرعية وجوده، ما داموا ينظرون إلى عنفه كقدر محتوم، بينما العنف المقابل بمثابة الخيار الخاطئ. أما أن يسلط هؤلاء الضوء دائماً على سلبيات العسكرة، وهي سلبيات موجودة للأسف، فهو حق يُراد به باطل طالما أن أصحاب هذا النقد لن يساهموا في الحد من سلبيات العسكرة، ولو من موقعهم المدني المزعوم.

من نافل القول أن طائفيي الخيار السلمي لا يضعون خريطة طريق واقعية لإسقاط النظام بسبل مدنية، فهم بتعبير الصديق ياسين الحاج صالح عن السلمية الكيدية يعتاشون أيضاً على المواقف المتكوّنة من الصراع، أكثر بكثير من سعيهم ليكونوا جزءاً من مشروع يؤدي إلى التسريع بإسقاط النظام؛ هذا إذا صدقنا أنهم متلهفون حقاً لرؤية سقوطه.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى