الشباب العربي.. جيل زئبقي بثقافة تويتر
“يا له من جيل مراوغ .. متملص .. ملتوٍ .. مخادع ..!” إنها مجرد أمثلة للأوصاف الفظيعة، أو على الأقل المميزة، التي كان الشباب العربي يوصم بها من قبل الأجيال الأكبر. ومع انعدام فرص الحوار، واستمرار التقويم الأبوي، ودوام المحاكمة، صرنا بالقطع غير مبالين بالدفاع عن أنفسنا. فهل كان الأمر يستحق فعلاً؟
كان من الشائع اجتماعياً وأمنياً أن يتم توجيه السؤال الشهير لأي “متورط” في النشاط السياسي أو الحقوقي ذي خلفية “محترمة” أو وظيفة مرموقة: ما علاقتك بهؤلاء “العيال”؟. في الحقيقة، كان هؤلاء “العيال” العزل في طريقهم لليوم التاريخي الذي حاصروا فيه مقر جهاز أمن الدولة، وانتصروا ليلته جسدياً على الضباط والأفراد المدججين بالسلاح والمولوتوف في معركة حامية غير متكافئة (الإسكندرية، 4 مارس 2011).
“لخص”، “اختصر”، “جيب من الآخر”، “يعني في الآخر..؟” كلها تعبيرات طلبية أسمعها من أقراني منذ دراستي الثانوية قبل عقد من الزمان. أحياناً كان هذا النمط من إيقاع الحياة محل انتقاد ومدعاة للحنين إلى “الزمن الجميل” الذي كانت تحتشد فيه الأسرة عن بكرة أبيها مصغية إلى المذياع تنتظر سهرة موسيقية تمتد لساعتين تغني فيها أم كلثوم أغنية واحدة. وكان أحياناً هذا الإيقاع مدخلاً لإعذار الشعوب المضغوطة المحبطة في كثير من البلدان العربية، التي لا تكفي فيها وظيفتان بدوام كامل لتأمين حياة كريمة. لقد كانت تستحق هذه التعبيرات الثقافية أن تدرس كمؤشر لنمط الأفعال والأحداث القادمة وإيقاعها، لكن كانت إحدى أذني الدراسين من طين والأخرى من عجين!
جيل صنع تويتر، لم يصنعه تويتر
أكدت نتيجة الاستفتاء على التعديلات الدستورية، الذي أجري بمصر يوم 19 مارس 2011، أن الإعلام الرقمي وشبكات التواصل الاجتماعي الافتراضية تعكس الواقع، أو جزءاً منه، لكنها لا تصنعه بكل تأكيد. ففي الوقت الذي تفاءلت فيه الحملة النخبوية الرافضة للتعديلات باستطلاعات الرأي الإلكترونية، نشرت توقعاتي كـ”نتيجة الاستفتاء من الكنترول”. وذلك كان قبل أسبوع من إجراء الاستفتاء، حيث توقعت نتيجة 70% كحد أدنى للموافقة على التعديلات، وحذرت من الطريقة التي تتبعها “النخبة” في التقويم والاستطلاع. الإشكالية الأساسية فيما يخص الإعلام المجتمعي الرقمي متعلقة بمفهومنا حول الدور الحقيقي الذي يؤديه في العالم العربي. فلو كانت الاجتماعات الافتراضية أكثر أماناً من نظيرتها الجسدية، وإذا كان التعقيد الشبكي أقرب للفضاء العنكبوتي على شبكة المعلومات الدولية، فهل هذا يعني أن الإعلام المجتمعي الرقمي يغير من ثقافة الفعل والممارسة؟
أزعم، بناءً على مشاركتي وملاحظتي الإثنوجرافية على الأقل، أن “فيسبوك” تم تسييسه، ولا شك أنه لم يكن أداة تسييس في تخطيط مارك زوكربيرج حينما أنشأه كشبكة اجتماعية إلكترونية، أو حتى حينما طوره مع شركائه ليكون شركة أعمال ربحية. ونفس الحجة أسوقها فيما يخص “يوتيوب” و”فليكر” و”تويتر”، إلخ. وحينما ندرك أن نسبة أمية القراءة والكتابة في العالم العربي تبلغ تقريباً 30% (40% بين النساء البالغات) سيكون من الأسهل أن نفهم أن الأغلبية العددية من العرب لا يتعاملون مع شبكة الإنترنت نفسها، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار أن أسماء النطاقات العربية (URL) لم تستخدم بعد. أي أن مستخدم الإنترنت عليه أن يعرف على الأقل الحروف اللاتينية.
الحجة المضادة تقول إننا لم نكن في حاجة إلى الأغلبية لإشعال الثورة، حتى لو كان المواطنون الأميون وغير الأميين هم من صنعوها. إنه إذن الحديث عن “الكتلة الحرجة” التي يتطلبها التغيير. وهنا أتساءل عما إذا كان “يوتيوب” ملتقىً لمشاركة المقاطع ذات الإيقاع الكلثومي! أو عما إذا كان “تويتر” منتدىً لما لا يقل عن (140 ألف) حرف/رمز!
أؤمن بشدة أن نجاح الإعلام المجتمعي الرقمي وفعاليته مبنيّان على توافقه وملاءمته مع ثقافة المستخدمين/المتفاعلين في ممارسة حياتهم اليومية. هذه الثقافة هي العامل الرئيس في فهم الشعبية المتفاوتة التي تجنيها مواقع التواصل الاجتماعي ذات سهولة الاستخدام الواحدة. وبناء عليه، فإن فضاء الشبكة العنكبوتية كان مهيئاً للشباب المُعَـوْلَم المُتـَوْتـَر (حامل ثقافة تويتر) قبل تدشين “تويتر” ذاته. فالشباب العربي جزء من ثقافة “لـخِّـص” في العصر الذي توقفنا عن تسميته بـ “عصر السرعة”، وهو الذي اعتاد أن يتطلع إلى الأحجام المصغرة للأجهزة الإلكترونية، وإلى تقليل وقت البحث، وإلى التفكير في تسريع كل شيء دون الإخلال بأية مكتسبات أخرى. هل يذكرنا هذا بالوجبات السريعة؟
إن الدافع وراء تفضيل الوجبات السريعة (fast-food) قد يكون متطابقاً مع الدافع لإنشاء “تحديثات الأخبار السريعة” (e-feed)، وقد يكون أيضاً منظوراً جيداً لفهم لماذا كانت الثورتان التونسية والمصرية مُتـَوْتـَرتين (أي تمت صبغتهما بثقافة “تويتر”). إنه الفرق بين حفل موسيقي لمدة ساعتين يعرض أغنية واحدة مع كتيبة من الموسيقيين وبين أغنية “راب” تستغرق ثلاث دقائق بموسيقى إلكترونية وإنتاج فردي غالباً. فبعد أن شارك الشباب العربي في تـَوْترة فضاء الشبكة العنكبوتية العالمي، ولو بالاستخدام والتفاعل، قاموا بتوترة التغييرات التاريخية وتقليل وقت معالجتها من سنين وشهور إلى أسابيع وأيام.
خصائص زئبقية
إذا كانت المعادن كلها صلبة، والسوائل جميعها باهتة، فالزئبق هو المعدن السائل اللامع الوحيد. الزئبق وحده لا يهتم بتقليل المعادن الصلبة من شأنه، ولا بإحباط السوائل الأخرى الذي لا يجعلها تلمع، وذلك لأن كليهما ببساطة ليس زئبقاً. وهذا هو حال الشباب العربي. بثقة استثنائية في النفس، وطموح متميز، يبادر الشباب العربي بنمطه في الفعل والأداء، غير مبالٍ بما يقول الآباء في البيت، أو يدّرسون في الجامعة، أو يطبقون في العمل.
سيكون من الخطأ الشنيع لو تصورنا هذا على أساس أنه صراع بين الأجيال، فما وجه المنافسة الذي يمكن أن يكون بين شباب “فيسبوك” وبين الهجانة وسلاح الفرسان؟ وما موقعة “الجحش” منا ببعيد! من المهم جداً أن ندرك أن غياب الانسجام بين الأجيال العربية المختلفة لا يعني التأزم، ذلك لأن السلام لا يعني غياب الصراع. قد تكون حالة “ما بعد صراعية”، أو قد تكون أحياناً “سلاماً سلبياً” بين الشباب العربي وبين أولئك الذين يبدأون حديثهم بـ “يا بنيّ” و”اسمعي يا ابنتي”.
من المفارقات أن تظهر أعراض المراهقة فجائياً على الآباء بعد الثورة، ففي كثير من الأحداث والفاعليات العامة يعبرون عن شعورهم بالاضطهاد والتهميش. المفاجأة أن الشباب المسؤولين عن هذه الفاعليات لا ينتقمون. وإذا كان الأمر قد صار بالفعل مضنياً للشباب المنظمين للأحداث أن يحتووا ويتعاملوا مع هذه الأعراض الجانبية المؤقتة للثورة، إلا أن التحدي الحقيقي هو إقناع الأجيال الأكبر أننا متسامحون معهم منذ فترة طويلة، لكنهم لم يلاحظوا. بدأ ذلك حينما آمنّا أنهم لن يفهمونا، أو بالأحرى غير قادرين على فهمنا، وحينما توقفنا عن انتظار دعمهم منطلقين في نضالنا – ليس فقط السياسي، بل الاجتماعي والمهني أيضاً.
لقد توقفنا عن شرح أفكارنا ومفاهيمنا المختلفة، وتخلينا عن احتياجنا السابق لتفهمهم لنا، لكننا أيضاً أعذرناهم بعدما تكونت قناعتنا بأنهم يبذلون قصارى جهدهم لضمان حياة أفضل لنا، لا للتحكم في أنفاسنا. لقد شعرنا أننا جميعاً في خندق واحد نُحارب من قبل الأنظمة السلطوية التي كانت تستمتع بتضييق الخناق على مواردنا واغتيال فرصنا وتحطيم آمالنا. ببساطة، لقد مضينا قدماً ووفرنا طاقتنا كيلا نفقدها في جدالات عقيمة. انعكس ذلك على الحياة الخاصة كما انعكس بنفس القدر على النشاط الاجتماعي الذي زادت فيه في الآونة الأخيرة المبادرات الشبابية والأشكال غير المؤسسية وغير المسجلة في الهيئات الإدارية، تلك المحكومة من قبل الأجيال الأكبر.
على جانب آخر، فإن الشباب العربي، ذلك الزئبق الذي لا ينافس السوائل الأخرى ولا المعادن الصلبة، ليس خاضعاً ولا خانعاً. فالأنظمة المستبدة كانت متعجرفة بما فيه الكفاية لتتجاهل “السمّية الزئبقية”، وظنت أنها يمكنها أن تبتلع الشباب العربي. في 25 يناير، يوم اندلاع الثورة المصرية، شاركت في قيادة واحدة من سبع مظاهرات متزامنة بالإسكندرية، حيث بدأنا بعشرات من النشطاء وما يمكن أن يطلق عليهم أشباه النشطاء. اخترنا أن نبدأ من الهوامش والمناطق الفقيرة حيث اضطرت قوات الشرطة لئلا تكون عدوانية، وحاولت إيقاف زحفنا بالتفاوض حول إبقائها “وقفة تظاهرية”. في شارع المعهد الديني شرقي الإسكندرية لم تستطع قوات الشرطة الخفيفة أن توقف العشرات منا، وحينما وصلنا إلى شارع 45 الواسع نسبياً في مئات من المتظاهرين تم نشر قوات الأمن المركزي لغلق الطريق إلى الكنيسة القريبة (كاحتياط أمني). وبكل عفوية وانسيابية، تلافى المتظاهرون الصدام الجسدي وتجنبوها بالدخول في شارع جانبي ضيق، حيث زحفنا إلى منطقة سيدي بشر وأصبحنا آلافاً. حينها فقد النشطاء السيطرة على توجيه المسيرة، حتى قبل استمرار السير إلى أحياء أخرى قاطعين الأميال في طريقنا إلى وسط المدينة، حيث تجاوز عدد أصغر مسيرة العشرة آلاف شخص.
وهذا مجرد مثال على تسلسل تطور الأحداث في مصر من مظاهرات احتجاجية واسعة إلى انتفاضة ثم إلى ثورة، وذلك بالحركة التي اتسمت بالانسيابية والسيولة، والتي لم تصطدم جسدياً إلا لما اضطرت لذلك ولم يكن ثمة مخرج. قد يكون من المضحك الآن أن نشبه ابتلاع الزئبق مجازاً بتقرير الطب الشرعي الملفق الذي يدعي أن خالد سعيد – رمز الثورة المصرية المقتول تعذيباً على أيدي عناصر من الشرطة في الشارع – قد توفي بسبب محاولته ابتلاع لفافة من مخدر البانجو ليهرب من العقوبة القانونية. في الواقع، فإن نظام مبارك كان هو الذي يحاول أن يبتلع جرائمه ليخفيها، لكنه لم يعلم أن جيل الشباب الحالي زئبقي، بما يعني أنه سام.
الأنظمة العربية والتسمم السائل
ما الذي يمكن أن تفعله قطعة من الخشب إزاء كتلة ضخمة من الخرسانة؟ أو لنقل ما الذي يمكن أن تفعله المنظمات السياسية المؤسسية المهيكلة إزاء أفضل الأنظمة بناء وقوة وأكثرها غشامة ووحشية؟ لكن ماذا عن مواجهة الخرسانة بالماء؟ وتفكيك الهياكل المعدنية بالمحاليل السائلة؟
“وفقاً لتعليمات السيد الرئيس” كانت من أكثر العبارات المستخدمة في إعلام الدولة سخافة وسماجة في العالم العربي. لم نتخيل يوماً أننا سنقول: “لم تكن الثورة لتنجح لولا تعليمات السيد الرئيس”، وهذه حقيقة. أزعم أن كثيراً من الثورات والانتفاضات العربية كان يمكن تفريغها لو لم تكن الأنظمة على درجة من الغطرسة تمنعها من المبادرة بالاستجابة للمطالب الأساسية. فـ”جمعات الغضب” العربية كان يمكن ألا تتطور إلى انتفاضات لو لم يتم إطلاق النار على الشهداء. والانتفاضات كان يمكن احتواؤها لو لم تكن الحاشية غبية بما يكفي لإرسال بلطجية وفرسان وهجانة في غير أزيائهم الرسمية. هذه التكتيكات العبقرية كانت كافية – على الأقل – لضمان استمرارية الثورات/الانتفاضات، حتى لو لم يكلل معظمها بالنجاح حتى الآن. والأهم من هذا هو أن ندرس هذه التكتيكات في ضوء كونها آخر إجراءات عملية الانتحار الزئبقي طويلة المدى.
مبدأ “الضغط يولد الانفجار” ليس كافياً لوصف الغليان المجمد الذي كان ملاحظاً في البلدان العربية. فحكومة أحمد نظيف، آخر حكومة في نظام مبارك، كانت تتباهى بإجراءاتها “الذكية” (الرقمنة). ورغم أنه من المعروف أن كل الصفقات ذات الصلة مع الشركات متعددة الجنسيات ملطخة بشبهات فساد، لكن أحد الجوانب الإيجابية في هذه الإجراءات هو دعم انتشار ثقافة استخدام الإنترنت وسط قطاعات أوسع من الشباب، حتى في المناطق الفقيرة التي لا يملك فيها الأفراد ولا العائلات أجهزة حواسيب شخصية وكانوا عادة ما يستخدمون مقاهي الإنترنت. وبعقلية أمنية صرفة، حاولت وزارة الداخلية أن تتحكم في الاستخدام الجماهيري لمقاهي الإنترنت بممارسة رقابة، أقل ما توصف بها أنها بدائية. وبالإضافة إلى عدة أسباب أخرى، شجع ذلك انتشار شبكات وصلات الـ DSL غير الشرعية، بعد خبرة مجتمعية جيدة في وصلات الشبكات التليفزيونية غير الشرعية. ومع توافر الأجهزة الشخصية بأسعار أقل، أدى ذلك إلى عدد ساعات أكثر يتم قضاؤها على الشبكة، ومشاركة أعلى للإناث، حيث الاستخدام المنزلي الأكثر راحة وأمناً.
أما عن ربط استخدام الحاسوب والإنترنت باللعب والترفيه والتسلية فقد كان الخطأ الاستراتيجي الأفدح الذي استقر في وعي الأنظمة الأبوية. فالعبارة التاريخية التي صدرت من الفرعون مبارك في آخر جلسة مشتركة لمجلسي الشعب والشورى في 19 ديسبمر 2010، “خليهم يتسلوا”، تعليقاً على البرلمان الموازي، كانت مؤشراً خطيراً لحجم الاستخفاف بالحراك الكامن تحت السطح، فضلاً عن التفاعلات فوق السطح. وقد وصف ستيفين هايديمان الأنظمة العربية بأنها “مقاومة للزلازل” لما تتمتع به من قدرة فريدة على احتواء كافة أنشطة المعارضة، لكنها في الحقيقة كانت تحاول احتواء الزئبق السام. فحظر كافة الفضاءات العامة يغذي كافة أنواع الأنشطة الخاصة، ومواجهة لوحة المفاتيح بالأصفاد لا يترك مجالاً سوى لإعلان الاستياء، وأخيراً قطع كافة وسائل الاتصالات دفع الناس للخروج والذهاب لمعرفة ما الذي كان يحدث.
نظاما مبارك وبن علي احتكرا الفعالية الهيكلية والكفاء المؤسسية وقوة التنظيم الهرمي، لاسيما في أجهزتهما الأمنية، مما فوت وجود فرصة صحية للهيئات السياسية المهيكلة. بدا الأمر وكأن شجرة ضخمة قامت بتفتيت كل الشجيرات المنافسة إلى أشواك صغيرة، حيث أصبحت حركتها أسرع وأسهل، فحاصرتها ووخزتها وفي النهاية دفعتها للسقوط. إنه نفس الموقف لو تخيلنا فيلاً يقاتل حمارين صغيرين مقارنة بهجوم جيش من النمل عليه. هنا قد يكون من المناسب استخدام تعبير آصف بايات “زحف الناس العاديين” أو “encroachment of ordinary people”، وذلك في سياق دراسة “اللاحركات الاجتماعية” Social Non-movements.
الثورات الزئبقية المُتـَوْترة والتحول الأعظم
هذه الاستثنائية ليست مألوفة في كل من العقليات المحافظة، سواءً المعدنية الصلبة أم السائلة الباهتة، حيث تعجز كل من المداخل الحداثية وبعد الحداثية عن تفسير ما حدث بالضبط في تونس ومصر، أو حتى تحليل ما يجري في العالم العربي برمته. هذه هي النقلة الأكاديمية التاريخية حيث تمر الأكاديميا الغربية بأسوأ مواقفها، وحيث تنتهي صلاحية “نموذج العملية السياسية” وعلم الاجتماع السياسي الكلاسيكي أو حتى بعد الحداثي. هل كانوا بالأساس صالحين للعالم العربي؟
كم درسنا من الأكاذيب المستوردة من تربة وبيئة مختلفة تماماً حول “المأسسة”، وغياب “الفرصة السياسية”، و”تعبئة الموارد”، و”فعالية التنظيم/البنية”، إلخ؟ وكم كان رومانسياً بشكل سلبي، وسخيفاً، وفوضوياً، وعديم النفع تعريب وتوطين ما بعد الحداثة؟ كيف كانت تطلعاتنا ورؤانا ستكون لو حذفنا الشهور الأربعة المنصرمة من ذاكرة التاريخ؟
“ما بعد القيادة”، و”ما بعد التنظيم”، و”ما بعد الأيديولوجيا” كانت المصطلحات والمفاهيم التي حرمت بسببها من نشر دراسة لي في مؤسسة أكاديمية مرموقة في مصر عام 2010. وكذلك الباحث الشاب علي الرجال، الذي يعمل على مفهوم التشكيلات والشبكات الريزومية في مقابل الأشكال الشجرية/الهيراركية، واجه الكثير من التجاهل لنظريته من كثير من العلماء المصريين الذين نالوا درجات الدكتوراة من أعرق جامعات العالم وفقاً للنظريات الاجتماعية “العالمية” والمناهج “العلمية”. هذان فقط مثالان لما يحدث الآن، حيث يجري تحول هذا المفاهيم إلى مفاتيح ذهبية للفهم والتحليل والتفسير لكثير من الوقائع. فالكثير من التطلعات الأكاديمية للشباب العربي وآمالهم في أن يكون لنا نظرياتنا والأكاديميا الخاصة بنا كوفئت بتجاهل واستخفاف كبيرين، وهو ما سيكون موضع ثورة أكاديمية في السنوات القادمة.
ليس فقط الأوهام الأكاديمية ما تم تخطيه، بل أيضاً الكثير من الخرافات السياسية والاجتماعية والأمنية تم تحطيمها بالثورات العربية التي أشعلها الشباب. وأحد هذه المعتقدات الخرافية كان يتعلق بانقضاء حلم الوحدة العربية وانكفاء كل قطر عربي على حاله، وتفسخ العلاقة بين البلدان العربية بسبب النزعة الوطنية أو الهموم الداخلية أو الخلافات بين الأنظمة. لكن الثورات والانتفاضات القائمة أكدت أن “نادي الأنظمة العربية”، أو ما يسمى “جامعة الدول العربية”، بما يدور فيه من مهازل لا يمثل الارتباط العضوي بين شعوب الأمة العربية التي ما لبث أن ثار القلب منها حتى تداعى معه سائر الأعضاء. وعاجلاً أو آجلاً أتوقع للنظام السعودي أن يتسمم زئبقياً بالمطاردين الذين يؤويهم ويدعمهم، فضلاً عن عوامله الداخلية. وكذلك أتوقع للمنطقة كافة أن تبدأ عهداً جديداً من التمكين الشعبي الديمقراطي مابعد الإسلاموي. وحتماً سيعاد رسم الخرائط السياسية والاقتصادية، لكن يبقى السؤال عن الخرائط الديموجرافية واللغوية في السنوات العشر المقبلة، ليس “لماذا” لكن “كيف؟”.
النسخة الأصلية من المقال تحت النشر بالفرنسية والاسبانية والبرتغالية في العدد 30 من مجلة أفكار الصادرة عن المعهد الأوربي لدراسات البحر المتوسط