الصحافة إذ تستوي منبراً للنظام السوري وعليه
في إحدى نشراتها الإخبارية قبل أيام, عرضت القناة الفضائية السورية تقريراً نشرته صحيفة “السفير” مفاده ضلوع عناصر من تيار المستقبل في عمليات تهريب سلاح إلى سوريا عبر الحدود, دعماً لمن دأب النظام وإعلامه ومؤيدوه على تسميتهم بـ”العصابات الإرهابية المسلحة”. لا نهدف من هذا المقال تبرئة طرف سياسي من الإتهام وكيله إلى حلفاء النظام في لبنان, ولا العكس, غير أن الجهة التي صدر عنها الإتهام بالتورط في تسليح الشارع السوري المنتفض, وهي الإعلام السوري, كفيلة بإثارة تساؤلات وشكوك مديدة لا تجد ضفةً ترسو عليها, فحجم الثقة الغائبة بأي تصريح وأي وعود بالتغيير والإصلاح والتوقف عن العنف يقدمها النظام قد تذهب بالمرء لأن يتحول تكذيب الإعلام السوري ورواياته إلى بنية ثقافية وسياسية لديه, تتعلق بالبحث عن نظام تعددي ومنفتح وواضح في الخطاب الإعلامي, نظام لا يستخف بعقول شعبه ومطالبهم إلى هذا الحد.
لتلاحظ التعارض بين المصدرين الإعلاميين والإخباريين, الإعلام السوري وصحيفة السفير اللبنانية, فتلك الأخيرة ممنوعة من إجتياز الحدود باتجاه الأسواق والمكتبات وأكشاك بيع الصحف في سوريا منذ أشهر, شأنها في ذلك شأن صحف لبنانية عدة منها جريدتا النهار البيروتية و”الحياة” اللندنية, وتلك الأخيرة تدخل سوريا بشكل متقطع, حتى صار إحراز عدد منها هذه الأيام في سوريا معجزة تستدعي الفرح العميم, والموازي لأفراح اللبنانيين بترشيح مغارة جعيتا لتكون من عجائب الدنيا السبع, ذلك أن إنفتاح السوريين على الإعلام العربي والعالمي ومنه إعلام “الخاصرة الرخوة لسوريا” كان ولا يزال مرتجى وأمنية تتجه الإنتفاضة السورية الضاغطة اليوم والمطالبة بالتغيير نحو تحقيقها. يضاف إلى سلسلة المنع من التداول في سوريا جريدة الأخبار المقربة جداً من حزب الله كما هو معروف. كل هذا لم يمنع فضائية النظام من الإستشهاد بجريدة “السفير” لمجرد أنها ذكرت خبراً قد يجد فيه النظام متنفساً ودليلاً على روايته التي لم تتغير منذ أكثر من ثمانية أشهر, وهي مسألة قديمة ربطت النظام السوري في علاقته بالصحافة العربية خاصة اللبنانية منها. فمن يريد التجوال في سوريا باحثاً عن صحيفة لا تظهر تمجيداً بالغاً وطهرانية واضحة في النظر للنظام السوري, ولا “للسيد المحافظ” وهو يقص الشريط الحريري مفتتحاً إحدى منشآت “مسيرة التحديث والتطوير” برفقة “السيد رئيس الفرع” وسط “أفراح وإحتفالات أبناء شعبنا”. لا بد له أن يشد الرحال نحو صحيفة لبنانية أو عربية أو مواقع إلكترونية ترضي السوريين وبحثهم عن خبر أو مصدر إخباري خارج النسق السلطوي. والحق يقال, أن النظام أدرك ولا يزال يدرك معنى إكتشاف السوريين فضاءً إعلامياً وثقافياً وسياسياً غير المحدد لهم منذ عام 1963, فلم يني يصادر كل ما من شأنه أن يهدد استئثاره بالسلطة والسياسة والإعلام.
هكذا, كان ضرب ربيع دمشق عامي 2001 و2002 ذو مغزى يتعلق ببحث مثقفي سوريا وسياسييها المعارضين عن حالة مغايرة للحالة السورية التي كانت ولا تزال مستعصية على التغيير حتى هذه اللحظة, وإن تكن قد كسرتها الملحمة البطولية للشعب السوري اليوم وإنتفاضة الحرية والكرامة التي عمت سوريا, ولا تزال تسير بوتيرة متصاعدة, يلعب الإعلام والصحافة غير الرسمية, أي الغير بعثية, دوراً لا يستهان به في نقل صوت السوريين ومظاهراتهم وأفكار مثقفيهم إلى خارج الحدود المرسومة مسبقاً للثقافة والسياسة في سوريا. يشهد لذلك ربيع دمشق الذي إنطلق مع صدور بيان الـ 99 مثقفاً سورياً وما تلاه من حراك ثقافي وسياسي وإعلامي في المنتديات والصالونات السياسية, وإزدهار الصحافة اللبنانية والعربية بكتابات مثقفين سوريين وآراءهم ورؤيتهم للتغيير الذي جاءت به وعود الربيع والإصلاح, وهي فترة لا يزال يذكرها جيداً كل من خاض غمار الأحلام التي كانت تداعب مخيلة السوريين بالإنفتاح السياسي والتغيير آنذاك, ووجد السوريون يومها في الصحف اللبنانية البيروتية والصادرة في المهجر مكاناً للتعبير عنهم وعن ذواتهم فكرياً وسياسياً, قبل أن يتلقى الربيع الدمشقي ضربته الكبرى مع إعتقال العشرة الأفاضل وعلى رأسهم عارف دليلة ورياض سيف ورياض الترك “للمرة الثانية”, ليغلَق الباب نهائياً ولتبقى الصحافة اللبنانية والعربية التي كانت منبر من لا منبر لهم, أي مثقفي سوريا, من دون طيف ربيع دمشق, بإستثناء كتابات جريئة ممن بقي خارج السجن من رموز تلك الفترة, ولتبدأ بالإنحسار محاولات سورية جريئة لخلق صحافة سورية معارضة أو على الأقل, متوازنة في الطرح الثقافي والسياسي المتعلق بالشأن السوري, منها على سبيل المثال جريدة الدومري للفنان الكاريكاتوري العالمي علي فرزات والتي أغلقت وسحب آخر عدد منها من الأسواق السورية بعد فترة من صدورها في عام 2001, وصحيفة “قنطرة” التي كان يشرف عليها الكاتب السوري ياسين الحاج صالح وبإمكانيات مادية وتقنية مطبعية متواضعة, توقف ياسين عن إصدارها لأسباب متعددة منها الشخصي ومنها العام المتعلق بمآل سوريا بعد العودة القسرية إلى الشتاء.
واليوم, يتبدى أنه من باب الهزالة والإستخفاف بالمسار التاريخي لأنظمة الإستبداد العربية عدم ربط تلك الفترة من بداية هذا القرن, بما نال علي فرزات قبل حوالي ثلاثة أشهر من إعتداء عليه في ساحة الأمويين وتكسير أصابعه, في الوقت الذي يغيب فيه ياسين الحاج صالح عن الأنظار نهائياً من باب الحذر الضروري وتقليل إحتمالات أن تناله حزمة الإصلاحات الموعودة بمكروه. هذا المكروه قد يستدعيه الموقف من السلطة والجهر بالحقيقة في مواجهة التضليل والديماغوجية التي يتفنن النظام ومؤيدوه في صناعتها وبثها. أي بإختصار, يمكن ربط مقالات ياسين المنشورة في الصحافة “غير السورية طبعاً” وبين تخفّيه وإستغناءه حتى عن هاتفه الشخصي, كما حال علي فرزات الذي اعتدي عليه رمزياً عبر إغلاق جريدته قبل حوالي عشر سنوات, وجسدياً مؤخراً بتهمة قول الحقيقة وتمثيلها رسومات معبرة عن واقع الحال في سوريا. ينسحب هذان المثالان, علي فرزات وياسين الحاج صالح, على كل مثقف سوري أو عربي يقف في مواجهة السلطة والأنظمة العربية الحاكمة ويسمي الأشياء بمسمياتها الحقيقية.
وبين خنق الصحافة في ربيع دمشق الموؤود وإستمرار محاولات إحتكار الإعلام وعقول ومشاعر السوريين وآراءهم في ربيع دمشق المولود هذه الأيام, أو الذي سيولد رغم العملية الصعبة لولادته, تبقى المعركة التاريخية دائرة بين المثقف والسلطة, لكنها لا تبقى اليوم أسيرة صالونات الكتاب والمثقفين, بل ثمة زخم شعبي في الشارع يخلق إعلاماً وصحافة من نوع جديد هي الفضاء الإفتراضي وصفحات الفايسبوك والتويتر وغيرها, فيما لا يزال هذا النظام العربي أو ذاك أسير عقلية ماضوية ولى زمنها, وهو لا يدرك أن أساليب القمع والتضييق لن تنفع في مواجهة التغيير القادم لا محالة, في ظل وضع كل تطورات العلم والإلكترونيات والشبكة العنكبوتية في خدمة هذا التغيير, فهل من مجيب؟
http://damascusbureau.org/arabic/?p=1751