الصحافيون وسورية: الهجرة حتى إشعار آخر
اسطنبول ــ أنس الكردي
بعد انطلاق الثورة السورية منتصف مارس/ آذار 2011، جذب الحدث السوري وسائل الإعلام الدولية والعربية نحوه.
وما أن اندلعت الثورة حتى أضحت الحاجة إلى الصحافيين كحاجة الإنسان إلى الماء، لكن وفي ظل قبضة أمنية حديدية للنظام السوري، تتمثل في قتل واعتقال وخطف وضرب، وظهور تيارات إسلامية متشددة أحادية الفكر، كتنظيم الدولة الإسلامية بعد ذلك، واستغلال معظم وسائل الإعلام لصحافيي الداخل، عبر تسخيرهم للعمل الصحافي مقابل أجور قليلة،
أدى ذلك كله إلى هروب الصحافيين إلى الخارج. واضطرت بعض وسائل الإعلام إلى إيجاد حلول بديلة، تؤثر على معايير السلامة المهنية للمراسل الصحافي. إلا أن هذه البدائل، لم تكن كافية، ما انعكس سلباً على التغطية الصحفية للحدث السوري.
هجرة كفاءات صحافية قبل الثورة
كان النظام الإعلامي السائد في سورية قبل الثورة يطبق نظرية السلطة التي ظهرت في إنجلترا في القرن السادس عشر بحذافيرها، فالسلطة هي ملك للحاكم، وبموجب هذه النظرية يتم الدفاع عن السلطة، واحتكار وسائل الإعلام، وتقوم الحكومة بمراقبة ما يتم نشره، ويحظر على وسائل الإعلام نقد السلطة.
في ظل بقاء الإعلام السوري متقوقعاً على نفسه مع مصادرة الحرية والتعددية، وجد الكثير من الإعلاميين السوريين ضالتهم في الإعلام الخارجي، وشهدت نهاية التسعينات من القرن العشرين وبداية القرن الجديد هجرة الكثير من الكفاءات السورية الإعلامية إلى وسائل إعلام في الغالب عربية، لكنها تتمتع بحضور دولي، حتى أضحى يشكل الصحافيون في قناة “الجزيرة” مثلاً حضوراً عالياً، أمثال فيصل القاسم، ورولا إبراهيم في قناة “الجزيرة”، إضافة إلى مصطفى الآغا في قناة “أم بي سي” الفضائية، وهذه الأمثلة على سبيل الاستدلال لا الحصر.
تأثر التغطية بهجرة الصحافيين
بعد تفجر الثورة السورية، اتسعت رقعة الحدث السوري بشكل كبير، ولم يعد حتى الصحافيون السوريون قادرين على تغطية جميع مناطق الصراع دفعة واحدة، وفي حين كانت النظرة إلى الإعلام قبل الثورة محكومة بالسلطة، أضحت بعد الثورة محكومة بالأسد وحده، فزادت حدة الانتقام من قبل القوى الأمنية على الصحافيين، فبلغ عدد القتلى خلال عامين ونصف العام من الثورة 261 صحافياً، بين صحافي وناشط وإعلامي ومصور، على يد قوات الأسد، حسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان.
ومع اتساع سيطرة التنظيمات المتشددة، أضحى الصحافيون محاربين في مناطق سيطرة قوات النظام والمناطق الخارجة عن سيطرته، ما انعكس سلباً على حرية العمل الإعلامي ومهنيته، وبات العمل الإعلامي أخطر المهن في سورية، حتى بلغ من قتلتهم قوات الأسد مع نهاية شهر نيسان/ابريل العام الفائت 328 إعلامياً ما بين مصور وصحافي ومواطن صحافي وناشط إعلامي، بينهم 12 إعلامياً أجنبياً، كما اعتقلت قوات النظام 848 إعلامياً، بينما قتل تنظيم الدولة 13 إعلامياً، واعتقل 42 آخرين، مازال إلى الآن 23 منهم مخطوفين، حسب الشبكة الحقوقية ذاتها.
نجم عن ذلك هروب المئات من الصحافيين خارج البلاد، بسبب فقدان الأمن والحرية للعمل الصحافي، وتصاعدت ظاهرة الإعلام الحربي مقابل تراجع العمل المدني الحر، فالناشطون السوريون الذي شكلوا بديلاً للصحافيين وبرزوا مستفيدين من تقنيات التواصل الحديثة في الإعلام، موظفين وسائل التواصل في خدمة العمل الصحافي، عاشوا مع الحدث وغابوا بغيابه، ولم يكونوا على دراية كاملة بالأشكال الصحافية وقواعد العمل الإعلامي وخصائصه، وأدى ذلك إلى غياب المهنية والصدقية والانحياز بشكل سطحي للجهة التي يمثلها الناشط الصحافي.
حلول بديلة
ويرى في هذا السياق، الصحافي السوري محمد درويش (اسم مستعار) أن: “الشبكات الإعلامية الإخبارية الداعمة للثورة السورية فقدت الكثير من إمكاناتها خلال السنوات الأربع الماضية، وذلك بسبب خروج الصحافيين لأسباب متفاوتة أبرزها خطورة الوضع بسبب الحملة العسكرية الشرسة التي يشنها النظام على المدن السورية”.
واستدرك الصحافي الذي انتقل إلى العمل في وسيلة إعلامية دولية بعد خروجه من سورية بأن “الشبكات الإخبارية استطاعت التغلب على هذه المشكلة من خلال خلق المواطن الصحافي والعمل على صقل قدراته الإعلامية بحيث تحول من خلال كاميرته إلى راصد متحرك يرصد أدق التفاصيل، إلا أن المعالجة الإعلامية لم تعد بالعمق المطلوب، مبيّناً أن: “المادة الإعلامية التي يقدمها المواطن الصحافي بدت سطحية نوعاً ما، لا تنفذ إلى أبعاد الموضوع كاملة، الأمر الذي دفع الشبكات الإخبارية إلى وضع حلقة أخرى أعلى من حلقة مراسليها المتمثلين بالمواطنين الصحافيين مهمتهم العمل مرّة أخرى على المادة الإعلامية من أجل الارتقاء بمستواها وإغنائها”.
جانب آخر لجأت وسائل الإعلام إليه لتعويض النقص الحاصل من الصحافيين، عبر اعتماد مراسلين في مناطق الصراع لديها، مع تجاوز السلامة المهنية للمراسل الصحافي، حيث ظهر المراسل في مناطق تتعرض لقصف واشتباكات يومية، تصل فيها نسبة المخاطرة إلى درجة كبيرة، وحتى هذا الحل لم يسعف وسائل الإعلام كثيراً، فمجريات المعارك الدائرة في كل بقعة سورية، أضحت تتطلب طاقماً إعلامياً كبيراً في منطقة جغرافية واحدة.
غياب وكالة أنباء مهنية
قد يكون الحل في وكالة أنباء مهنية تخدم العمل الصحافي بالاستناد إلى القواعد الصحافية المعمول بها، هذا ما يذهب إليه مراسل قناة “أورينت” الفضائية، عمار عز، في حديثه مع “العربي الجديد”، إذ يؤكد أن هجرة أو سفر الصحافيين السوريين العاملين بحقل الإعلام قبل الثورة، أثر بشكل سلبي على سير التغطيات الصحافية في الداخل السوري، ويبدو أن الوضع الصحافي اليوم شبيه بمرحلة بداية الثورة حين انكفأ الصحافيون المتخصصون أو تأخروا لأسباب عديدة”.
ويوضح عز: “أصبحنا نرى اليوم الصحافيين العاملين في الداخل ممن بدأوا العمل الصحافي مع بداية الثورة كناشطين ويحملون فكراً محدداً لفصيل معين قد يلجأون له وقت الأزمات، لذلك فإن الصحافي المتخصص ترك العمل في الداخل لأنه شعر بأنه ليس حراً بتغطياته الإخبارية أو نقله للواقع، وهو ما يراه خرقاً لأخلاقيات العمل الصحافي، لذلك فضل الانسحاب”، لافتاً إلى “أننا اليوم أمام صعوبة هائلة في التأكد من صدقية الأخبار الصادرة من الداخل نظراً لغياب معظم أُسس الصحافة وصحافييها”.
ويختتم الصحافي السوري حديثه بالقول: “حتى حين سادت الفترة الذهبية في المراحل الأولى لتحرير المناطق من قبل الجيش الحرّ، لم تكن وسائل الإعلام العالمية تعتمد على إعلام الثوار والمعارضة، وكانت دائماً تتبنى ما تقول إنها وسائل إعلام حكومية، وبالتالي فإن السبب الرئيس في كل ذلك هو الفشل في تأسيس وكالة أنباء مهنية تتكلم باسم الثورة بعيداً عن كل التجاذبات”.
العربي الجديد