الصراع الدولي على سورية يكرّس تقسيمها/ غازي دحمان
لن يُسقط هذا الصراع الدولي الذي يحتدم في سورية نظاماً، ولن يقضي على ثورة، ولن يوصل إلى تسوية سلمية تخرج سورية من مأزقها التاريخي، فمثل هذا الهدف غير وارد في استراتيجيات الصراع الدولية، ولا يرصد له الفاعلون موارد ولا قوى بشرية، هل سمع أحد بإستراتيجيات مصمّمة لبناء الدّول، ما لم تكن هناك مصالح ملحّة؟
فيما العكس هو الصحيح، يجري تصميم الإستراتيجيات الدولية، وفي حالات الصراع المتكافئ والمدعوم بميزان الردع، على قاعدة التوازن في النفوذ الذي تتم ترجمته على شكل تقاسم للحيز الجغرافي محل الصراع، كما حصل في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، وشبه الجزيرة الكورية في الخمسينيات، وكذلك فيتنام في بداية السبعينيات. وفي هذه التجارب، تشكّل الصراع وانتهى عند خطوط جغرافيّة، ثم تشكّلت السرديات الوطنية والهويات الأيديولوجية وأشكال الإنتاج الاقتصادي وأنماط المعيشة، لتتحول إلى خنادق لتحصين الحدود، وتثبيتها نهائياً.
تأتي التطورات في سورية، أخيرا، ضمن سياق التسابق على مناطق النفوذ وتثبيت حدود الجغرافيات المستهدفة، فإذا كان الأسد، ومن خلفه روسيا وإيران، قد خططوا لاستثمار السلاح الكيميائي في عملية تفريغ غرب سورية من سكانها السنة، واستكمال عملية السيطرة على “سورية المفيدة”، فإن ضرب أميركا مطار الشعيرات العسكري كان بغرض تعطيل فاعلية الخطوط الأمامية المتاخمة للنفوذ الأميركي في شرق سورية، واستكمالاً لعملية رسم الحدود بالنار، من منبج في الشمال إلى التنف في الشرق.
وتتراكب تلك التطورات مع حالة من التمترس في المواقف الدولية، والارتكاز على القوّة وسيلة وحيدة للحل، بالاعتماد على السيطرة النارية المتحقّقة لكل طرف. ومع وجود قوى إقليمية باتت ترى أن أمنها القومي يقع خلف خطوط الصراع في سورية، وأن الجميع يحارب في سورية لحماية عواصمه، وبعيداً عن مدى مصداقية هذه النظرية، إلا أنها أصبحت المحرّك الأساس للسياسات الإقليمية، والحافز الذي يدفعها لتبرير انخراطها في الصراع السوري.
“في مجمل الجغرافيات المتشكّلة في سورية، ثمّة روابط ونسجا اجتماعية باتت تشكّل روافع للواقع التقسيمي، وأدوات تشغيلية لمشاريع الآخرين”
غير أن الأهم في خريطة الصراع السورية أنه، في مجمل الجغرافيات المتشكّلة في سورية، ثمّة روابط ونسجا اجتماعية باتت تشكّل روافع للواقع التقسيمي، وأدوات تشغيلية لمشاريع الآخرين، فالجميع يقاتل السوريين بالسوريين، وهم المادة الأساسية على الجبهات، وتتعزّز هذه الحقيقة عبر فئات صاعدة في الأقاليم السورية لديها تصورات، وتفرض أنماطاً سياسية خاصة بها، وهي فئات محلية، الوطن بالنسبة لها هو المجال الذي توجد فيه مصالحها وروابط القربي المباشرة لها بالعرق أو الطائفة.
ولا يبدو أن للصيغ المطروحة للحلول حظوظا في التطبيق، وهي تبدو معوقاتٍ تطرحها الأطراف المتصارعة أكثر منها مقارباتٍ للحل، فلا روسيا ستقبل، بأي شكل، التضحية بالأسد الذي صنع لها مكاسب جيوسياسية، لم تحلم بها في ظل إمكاناتها، ولا أميركا مستعدّة للقبول بهيمنة روسية شاملة على كامل الجغرافية السورية، وإضاعة فرصة تمنحها حضوراً قوياً في شرق سورية وشمال العراق.
على ذلك، أصبح التقسيم الجغرافي في سورية واقعاً منظوراً ومعاشاً، وستتركز الصراعات الجارية والتسويات المحتملة على الحدود والمساحات التي يحق لكل طرفٍ السيطرة عليها، وهذه قابلة للخضوع لعمليات تبادل، والتي يبدو أنها بدأت باكراً في ما يسمى اتفاق المدن الأربع، وليس بعيداً ظهورها في الحسكة والقامشلي وريف الرقة بين الأكراد والعرب.
من المستبعد تحوّل الصراع بين الأطراف الدولية والإقليمية إلى صراع مباشر، هذا أمر يتجنبه الجميع، نظراً لارتفاع تكاليفه وخطورته المؤكدة. ومن جهة أخرى، لأن هذه الأطراف مقتنعة، إلى حد ما، بالحصص التي تقع تحت سيطرتها. وبالتالي، محفزات الصراع المباشر غير متوفرة، ويمكن لهذه الأطراف أن تتعايش مع هذه الحالة، وتوفر الآليات المناسبة لضبط العلاقة بينها فترة طويلة. غير أن هذا التعايش سيدفعها إلى تركيز مواردها وقواها للحفاظ على تموضعاتها، وترسيخ حدود تلك التموضعات، ما يعني، بالنتيجة، حصول ضغط مكثف على وحدة الجغرافية السورية، الهشّة نتيجة سنوات صراع مديدة بين مكوناتها، وحالة الفوضى الناشئة عن تداخل الجغرافية وتخارجها بين سورية والإقليم، بما يجعل التقسيم أقل الأكلاف وأكثرها فاعلية للحالة السورية.
ليس مبكّراً الاعتراف بهذه الحقيقة التي ارتسمت على شكل مناطق منفصلة منذ أربع سنوات وأزيد، وكانت ترجماتها الأشد وضوحاً عبر عمليات التفريغ الطائفي والعرقي ضد الأكثرية في غرب سورية ووسطها وشرقها وجنوبها. واليوم يأتي الصراع الدولي ليثبتها، ويزيد من منسوب التعقيدات المحيطة بأزمة معقدة أصلاً، تختلط فيها صراعات مذهبية وعرقية وإقليمية ودولية. وفي هذا النوع من الصراعات، ليس مهماً لأي طرف الاحتفاظ بالصبي (الحرص على حماية وحدة سورية) بقدر ما يهم حرمان الطرف الآخر منه، فلا أم لسورية غير شعبها، ولا حيلة لشعبها في مواجهة صراعات أكبر من طاقته وقدراته التي استنزفت في ثورة ضد الطاغية.
العربي الجديد