الضيعة الضايعة’ انتفضت على النظام/ إيلي عبدو
يمكن لثوار سوريا أن يقتحموا مدينة أو قرية أو موقعاً عسكرياً تابعا للنظام، ولكن كيف يمكنهم أن يقتحموا مسلسلا درامياً؟ فيدخلون إلى المشاهد الممنتجة سلفاً، ويعبثون في مسار السيناريو؟ باتت هذا الأسئلة مشروعة بعد وصول مقاتلي المعارضة إلى بلدة السمرا حيث جرى في بيوتها الريفية القديمة تصوير مسلسل “ضيعة ضايعة”، واشتهرت من خلاله شخصيتا جودة وأسعد الكوميديتان.
قبل ذلك دخل الثوار إلى القرية الشامية في ريف دمشق حيث صوّر مسلسل “باب الحارة” ذي الشهرة الواسعة أيضاً. وكأن تثوير الدراما وجرّها إلى مغامرة الثورة بات أمر ملحاً عند المنتفضين السوريين،’ سواء تعمّدوا ذلك، أم كان الاقتحام بحت عسكرياً واكتسب ذلك المعنى الرمزي الهائل. كأنه فعل ثأري يريد أن يضرب ذلك المسار الدرامي الذي ساعد النظام في تكوين روايته حول سوريا طوال أربعين عاماً.
“باب الحارة” مثلاً توسل تقديم رواية رسمية – تقليدية تستعيد التاريخ بشكل مشوه وركيك لتثبت أركانها. السكان متعاضدون ضد الشر الذي يتمثل في شخص واحد و الكل يسعى إلى محاربة المحتل الفرنسي الذي يظلم الناس ويهينهم. الطابع الكاريكاتوري للمسلسل الذي سيعرض جزء جديد منه في رمضان المقبل، لم يضعف من تأثير الأبعاد القيمية التي يسعى إلى تقديمها.
كم كان ضرورياً أن يدخل عناصر الجيش الحر إلى موقع تصوير هذا المسلسل، كأنهم دخلوا على قصته، حبكته، شخصياته، وذلك عبر اقتحام المكان الذي صوّر فيه، كأنما ليعيدوا إنتاج الرواية بشكل مختلف. فالعدو هو النظام والمنتفضين ليسوا كائنات أحادية النزعة يتمثلون الخير المطلق بسذاجة وغباء. الثوار أشخاص من لحم ودم تدرجوا في هدفهم من السلمية إلى التسلح لتغدو الحارة بالنسبة إليهم فسحة جديدة لتنضيج حلمهم بإسقاط النظام.
السذاجة التي سعى من خلالها النظام إلى تنميط محكوميه في مسلسل “باب الحارة” وجعلهم كائنات كاريكاتورية، اختلف دورها في مسلسل “ضيعة ضايعة”. فـ”أم الطنافس” ليست سوى المجال العام الذي افقره النظام الحاكم من السياسة والنشاط الحر والمجتمع المدني فباتت صورة كاريكاتورية عن أشخاص يمثلون أدوار الطيبة والسماحة ويتقصدون ممارسة الغباء ليتقوا شر السلطة المتوحشة المتمثلة في رجل المخابرات.
هنا أيضاً جرى تعديل السيناريو في الواقع، الثوار باتوا قرب منزل مختار “أم الطنافس”، بحسب مقطع الفيديو الذي بث في “يوتيوب”، والقرية التي أضحكت السوريين وجعلتهم يتماثلون مع سكانها ليجدوا في جودة وأسعد معادلَين لضعفهم وهشاشتهم أمام الطغيان المعمم، باتت تشكل رعبا بالنسبة إلى النظام الذي يبعد معقله الرمزي (القرداحة) بضعو كيلومترات عن موقع تصوير “ضيعة ضايعة”.
لقد تغيرت الحارة كثيراً، فما عادت ترتاح لتلك الرواية الرسمية التي تجد في الاستعمار عدواً أبدياً لها. انتفضت على “العكيد” الممانع وحولت القيم الاجتماعية التي تحث على التضامن والتعاضد إلى سلاح لإسقاطه. اما “الضيعة الضايعة” فلم يعد سكانها ساذجين، يستسيغون مواقف الغباء المضحكة ، انتبهوا الى أن الطيبة التي يسعى النظام إلى تنميطهم في إطارها ليست سوى خنوع وذل.
من جهة ثانية ، قد لا تكون الثورة بحاجة إلى إنتاج أعمال درامية تنحاز إلى قضيتها ، بقدر ما تحتاج إلى تحطيم الدراما السابقة التي كرسها النظام. يكفي أن يدخل الثوار إلى القرية الشامية وضيعة السمرا، لينفتح المكان الدرامي على الواقع الجديد، و يتجاور معه في إطار جدل صراعي. فتتخذ العناصر الدرامية السابقة وظائف جديدة لتعيد صوغ الرواية وتعدل من سيناريوهاتها.
لقد بات من الضروري تثوير الدراما، ليس عبر صناعتها من جديد بجهود مخرجين وممثلين وكتاب سيناريو متعاطفين مع الثورة فحسب، هذه الخطوة تقنية جداً. التثوير هنا، قد يأتي عبر إقحام الواقع الخالي من النظام في الوقائع الدرامية، لتصحيح مساراتها وتبديل الوظائف التي استقرت عليها.
المدن