الطاغية إبن الطاغية
أسعد ابو خليل
يجثم فوق صدور العرب طغاة، ويجثم فوق صدورهم أبناء الطغاة. الطغاة يولّدون، لكن ليس إلى ما لا نهاية. الإنتفاضات العربيّة—إن دلّت على شيء—دلّت على أن أجل الطغاة محدود، حتى لو كانت أميركا وإسرائيل هما الضامنتيْن. وسوريا عانت من حكم الطاغية، وتعاني من حكم إبن الطاغية.
غاب بشّار الأسد لأشهر عن السمع قبل أن يطلّ على محطة “الدنيا”، وهي نموذج للتخصيص الإقتصادي في دول القمع العربيّة—يحصل إبن العم أو إبن الخال على حق إنشاء شركة خاصّة، لا غيره. التخصيص ما هو إلا إنتقال حظوة الأسرة الحاكمة المُتجّسدة في الدولة إلى حظوة الأنساب والأصدقاء والتوابع. وغياب بشّار عن السمع كان ملفتاً بالرغم من أنه يرى في نفسه خياراً شعبيّاً يحظى بإستفتاءات بعثيّة لها من المصداقيّة ما لطقوس تقديم البيعة في دول النفظ والغاز أو الفوسفات. عاد بشّار للظهور لكن لهجته على الشاشة السوريّة تختلف عن لهجته على الشاشة الغربيّة. تراه مثلاً في مقابلته مع بربارة ولتزر يظهر بمظهر من يجهد كي يبدو مُحبّباً ومُقرّباً ولطيفاً. لا نرى أي أثر لهذا الجهد في مقابلات بشّار السوريّة. لا يجد إبن الطاغية ضرورة لإقناع الناس، أو للإعتذار. لا يجد إبن الطاغية ضرورة لكسب ودّ الناس، لأنه يضمن حبهم الأبدي في مخيّلته.
ولد بشّار إبناً لطاغية. لم يمرّ بما مرّ به والده في مرحلة التحضير لمؤامرات السلطة. كانت اللجنة العسكريّة السريّة التي شكّلها حافظ ورفاقه أثناء الوحدة تعلم أن في مرحلة تخطيطها للإستيلاء على السلطة عليها أن تعترف بأنها على تضاد مع معظم قطاعات الشعب. حزب البعث أدرك أنه لن يصل إلى السلطة عبر صناديق الإقتراع، فقّرر أن المؤامرة العسكريّة هي الطريق الوحيد. والمؤامرة العسكريّة هي من نتاج براعة حزب البعث التسلّطيّة: يعرف الجهاز الحزبي ليس فقط كيف يحضّر لإنقلاب، وإنما كيف يقضي على إنقلابات مضادة. تمرّس حافظ الأسد ورفاقه في التآمر من خارج ومن داخل السلطة. وفي فترة صلاح جديد (التي شكّلت حقبة علمانيّة حقيقيّة في التاريخ المعاصر لسوريا) كان حافظ الأسد هو الذي تولّى ضبط إيقاع قمع الإنقلابات الوشيكة، أو ردع الإنقلابات، أو حتى توقّع الإنقلابات قبل أن تحدث. لم تساور الزمرة الحاكمة أوهام: كانوا يعلمون علم اليقين أنهم يفرضون حكما قاسياً بالقوّة العسكريّة والمخابراتيّة. خلت خطبهم من الكلام عن حب الجماهير بعد سنوات قليلة فقط من تسلّمهم السلطة.
ليس بشّار وحده إبن الطاغية بين الحكّام العرب: هناك الملك محمد السادس في المغرب، والملك عبدالله الأردني، والملك عبدالله السعودي وحاكم الإمارات وسلطان عمان وأمير قطر وملك البحرين: كل هؤلاء أولاد لطغاة. يحبو إبن الطاغية بين جدران القصر العالية، ويهرع إليه أفراد الحاشية المدجّجون كلّما بدرت عنه إشارة ضيق، وهو يقتات باكراً على الكافيار والذهب: لا يذوق إبن الطاغية الأكل “البلدي”. قال ملك الأردن مرّة مُفاخراً عن علاقته بأولاد الحكّام (كان عبدالله هذا صديقاً صدوقاً لعديّ صدّام حسين، لكن لم يجرؤ مرّة واحدة ليخبرنا عن صداقته تلك التي إستمرّت لسنوات طويلة) إنهم يتبعون نفس النمط المعيشي: يأكلون في نفس المطاعم الأوروبيّة والأميركيّة ويتزلّجون في نفس المنتجعات الجبليّة السويسريّة، وينزلون في نفس الفنادق الفاخرة في الغرب. نسي أن يضيف أنهم يقامرون في نفس النوادي ويرتادون نفس الحانات الليليّة ولديهم نفس مستشاري اللذّات أثناء إقامتهم في الغرب.
إبن الطاغية يظنّ أن النساء يتجاوزن العذريّة عند ظهوره على الملأ، وأن المواطن والمواطنة تنتشي من ذكر إسمه. الحاشية أقنعت إبن الطاغية أن ولادته لم تكن صدفة: أنه ذات صفة إلهية. لا يجد ملك المغرب (الإصلاحي بمفهوم الغرب المنافق) حرجاً في عرض نعليْه أمام رؤوس الناس المنحنية أمامه. ولا يجد بشّار حرجاً في الوقوف أمام مجلسه (غير) المُنتخب ليرى الأعضاء يصفّقون بتكرار كالبطاريق. ولا يجد الملك الأردني حرجاً (والرجل حجّة لزائري الدول الغربيّة في الشرق الأوسط الذين يستجدون حكمته في شؤون الديمقراطيّة والإصلاح، ويستمعون لنصحه في الموضوع السوري فيما تهتف جماهير المعترضين الأردنيّين على بعد أميال غير بعيدة القصر بلغة لا يفهمها الزائر الأجنبي) في زج مواطنين في السجون بتهمة “إطالة اللسان”. ولا يجد حكّام الخليج حرجاً في تدبير أمور التغيير في سوريا واليمن وهم الذين عصيوا على التغيير لعقود طويلة، وهم نتاج نظام حكم يعود لما قبل القرون الوسطى.
لم يسمع إبن الطاغية أصوات الشعب منذ سن الطفولة: هو سمع فقط أصوات الحاشية والمصفّقين والمطبّلين. لا يدخل حجرته منذ الطفولة من لا يتأبطّ طبلاً ومن لا ينفخ مزماراً: هي شروط الدخول إلى الحجرة الأميريّة. والسلالات الجمهوريّة طريفة: هي تفترض أن الناس لا تلاحظ إنشاء السلالة. عندما مات باسل الأسد، نُظم فيه كم من القصائد جمعت بين دفتيْ كتاب (معظم ناظميها من منافقي الفريقيْن المتنازعيْن في لبنان). كيف يرى إبن الطاغية الناس وإسم البلد العريق بات ملتصقاً (على طريقة آل سعود) بإسم العائلة الحاكمة. درج متملّقوا السياسة في لبنان على تسمية “سوريا الأسد”. أي أن وجود سوريا متلازم مع وجود العائلة، والعكس صحيح. هل هذا يعني أن العائلة لا تقبل بوجود سوريا من دون العائلة؟ هل هي الحكمة من وراء التسمية؟ أم أن التسمية ترمّز إلى تقويم—لا ميلادي ولا هجري—جديد: أن سوريا بدأت مع حكم العائلة. أم أن التسمية تقول إن سوريا باتت من ممتلكات العائلة؟ لم يشرح المفسّرون.
نشأ بشّار في منزل الطاغية. مرّت أحداث جسام وتوالت المؤامرات، لكن نشأة بشّار لم تكن على نسق نشأة حافظ ليس فقط لخلوّها من شظف العيش بل لناحية العزلة عن الناس العاديّين. يُحاط إبن الطاغية بهالة من التعبّد وبطبقات من الحاشية تحول دون الإختلاط بالناس. ينشأ إبن الطاغية على فكرة أن الناس تعبد الطاغية-الوالد، وأن كل من تسوّله نفسه المعارضة أو حتى مساءلة النظام هو حكما متآمر ومرتبط بالأجنبي. ليس هناك من أسباب تخفيفيّة للمعارضة عند إبن الطاغية.
الكثير من سلوك الطاغية بشّار في فترة الصراع الجاري في سوريا ينمّ عن عقليّة نشأة إبن الطاغية. عزلة الحاكم بادية في كل تعامل بشّار مع الإنتفاضة. إطلالات قليلة أمام الناس على مرّ نحو سنة ونصف. إصرار على تجاهل تطلّعات شعبيّة عارمة، حتى لو أن النظام يتمتّع، ولأسباب مختلفة، ببعض من التأييد الشعبي. التمسّك بشعارات إصلاح لم تعد تقنع أحداً. إن إنشقاق رئيس وزراء سوريا كان خير دليل: كان حجاب على إتصال مع المعارضة قبل تكليفه بالمهمّة. أي أنه لم يدر في خلد بشّار أن يكون الرجل ليس من صف مصفّقيه ومُطبّليه—أو أنه كان من المُطبّلين والمُزمّرين لكنه ذهب بثمن. الإصلاح يكمن فقط في الحفاظ بأي وسيلة على النظام مع تغييرات في الديكور والإتيان بمعارضة مرضي عنها وموثوق بها.
وإبن الطاغية نشأ ثريّاً وإعتاد–بالرغم من كل ما يُقال عن عدم ثرائه الذاتي وعن بساطة عيش والده–على الثراء من حوله. أعمام وأولاد عم يكنزون الذهب والفضّة والدولارات بسبب صلة الأرحام فقط. القطاع العام تحوّل في حكم البعث إلى قطاع خاص—خاص بالعائلة الحاكمة وأفخاذها. أي أن الخاص هو ملك العائلة، والعام هو ملك العائلة. وعندما أدخل الحكم السوري ما يُسمّى–بمفهوم البنك الدولي وصندوق النقد– بـ”الإصلاحات الإقتصاديّة”، زاد ثراء الأثرياء وزاد فقر الفقراء. الحزب الذي كان يتحدّث في زمن غابر عن الفقراء، بات يخجل بهم. الطبقة البورجوازيّة تحوّلت إلى عماد النظام. إزدراء الفقراء باد لمن يتابع إعلام النظام: تعبير “أبو شحّاطة” يرمي إلى تعيير الفقراء لفقرهم—كأن العائلة المالكة أثرت بعرق الطائفة. يتحدّث النظام عن بضع دورلات لإغراء الفقراء كي يثوروا وكي يفجّروا. لا يدري أغنياء النظام أنهم يواجهون أثرياء الخليج. الفقراء منسيّون من الطرفين.
لا يبدر عن بشّار إشارة تشكيك ذاتيّة. هناك نواحي من غرور الشخصيّة تذكّر بصدّام. حتى الطاغية بن علي تواضع قسراً وزار البوعزيزي وكاد أن يقبّل يديه وقدميه. صحيح أن حسني مبارك لم يتواضع هو الآخر، وكان متكبّراً متعجرفاً على طريقة بشّار. لكن قد يكون بشّار نشأ على قيم الميكيافيليّة الأسديّة: التواضع ضعف والنقد الذاتي يقدّم المرء نحو المقصلة. الإعتراف بالخطأ يجب ان يترافق مع تجهيل المُرتكب.
دخلت سوريا في أتون حرب أهليّة وإقليميّة-عالميّة أيضاً. المتحاربون باتوا أدوات في معركة لا يدركون دوافعها ومراميها. قد يكون بشّار قد تحوّل إلى أداة هو الآخر، لكن يدرك أن السلالة جزء من إرث الطاغية. والعائلة لا تقبل بالتسليم، مهما كان. الحفاظ على السلالة أهم من الحفاظ على وطن ينزف. قد يكون الرعاة في صفّه مثل الرعاة في صفّ الخصوم: لا يكترثون لما يدري. مصالح الدولة (غير السوريّة) أهم.
قد تطول حقبة إبن الطاغية، أو قد تقصر. لكن من المحتم أن حفيد الطاغية لن يحكم—ولو يوماً واحداً. يندم والداه على تسميته بالعبء الأبدي.
[.إرتأت جريدة “الأخبار” ألّا تنشر مقالة أسعد أبو خليل الأسبوعيّة وهذا هو نصّها الكامل]