الطريق التي لا تمرّ بفلسطين/يزن الحاج
يجزم حازم صاغيّة في مقاله «الطريق إلى فلسطين تمرّ بـ…» («الحياة»/28/1/2014) بأنّ المعارك الثقافيّة «يُفترض أن تخدم معارك أخرى ملتهبة على جبهات القتال والسياسة والرأي العام»، أما الاستمرار فيها بعد خبوّ الجبهات السياسيّة والعسكريّة فليس إلا «نزعة صبيانيّة».
لا نعلم حقًا المصدر الذي استند إليه صاغيّة في حكمه القطعيّ بتبعيّة الثقافة للسياسة. إذ ليس ثمة تفسير آخر لمعنى القول بوجوب تعطيل المعارك الثقافيّة حين تتوقف الجبهة السياسيّة إلا بأنّ السياسة (أو السُّلطة، لو شئنا الدقة) هي التي تحدّد إيقاع المعارك الثقافيّة في ابتدائها وانتهائها، أو توقّفها ومتابعتها. والثقافة هنا ستكون أقرب إلى دلالة «القطيع» منها إلى الاستقلاليّة التي يُفترض أن تكون هي الشرط اللازم والكافي للثقافة كي تكون ثقافة فاعلة؛ الاستقلاليّة عن كلّ السلطات، سياسيّة كانت أم اجتماعيّة أم اقتصاديّة، من دون أن ندخل في المعنى الجدليّ لها بكونها «معكّرة لصفوّ السُّلطة»، وفق إدوارد سعيد.
كما لا نعلم مدى أكاديميّة مفردة «صبيانيّة» التي يصف بها صاغيّة الطرف الذي لا يشاركه وجهة نظره الخاصة، ورؤيته معنى الثقافة. أما اعتباره بأنّ تلك «الصبيانيّة» تسعى إلى تعديل «توازنات القوى على الأرض»، فهو بهذا يقوّل خصومه ما لم يقولوه يومًا، إذ إنّ الإشارة واضحة في المقال إلى حملة المقاطعة الأكاديميّة والفنيّة والثقافيّة الداعمة لإسرائيل التي تعمل منذ سنوات دون أن تُدلي بأيّ تصريح يقارب هذا المفهوم الذي يقول به صاغيّة. إنها تعمل، فعليًّا، على تحريك الضمير العالميّ (في الوسط الأكاديميّ والثقافيّ والشعبيّ) لإثبات عدالة القضية الفلسطينيّة، ولكنّها لم تدّعِ يومًا بأنها بديل عن الجبهات السياسيّة أو العسكريّة التي تكون بيدها، حقيقةً، تعديل تلك التوازنات.
وإن كان صاغيّة يرى بأنّ «هذا الضمير، على ما يبدو، لا يستيقظ» (بعد مرور ثلاث سنوات فحسب على بداية «الربيع العربيّ»)، فهو يفترض حتماً أنّ تلك المعركة الثقافيّة ابتدأت مع لحظة التغيير الشعبيّة في الانتفاضات، أو ابتدأت بتحريض منها، وستنتهي أو تتعثّر بانتهائها. ولكنّ حركة المقاطعة موجودة على الأرض قبل «الربيع العربيّ» بسنوات. وعلاوة على ذلك، فربط المعركة الثقافيّة بالمعارك السياسيّة والعسكريّة، لا العكس، أحد أسباب إخفاق تلك المعارك، إن لم يكن أهمّها على الإطلاق. إذ إنّ ربط «حماس» و«حزب الله» بأجندات سياسيّة في السنوات الأخيرة، كان سبباً في تعثّر المقاومة، كحركة شعبيّة سياسيّة اقتصاديّة واجتماعيّة في آن، قبل أن تكون مقتصرة على الجانب العسكريّ فقط، كما يرغب معسكرا مريدي ومعادي المقاومة على حد سواء.
إنّ نَسْب إخفاقات وتعثّرات المعنى السياسيّ والعسكريّ لفكرة المقاومة إلى «حملة المقاطعة» فحسب، ما هو إلا مغالطة وتعامٍ عن الوضع الفعليّ على الأرض. فالحملة تحقّق نجاحات متتالية (على رغم بطئها النسبيّ) في «الغرب» قبل العالم العربيّ، وفي الوسط الأكاديميّ قبل الأوساط «الشعبيّة»، وهو أمر معروف ويمكن متابعته ميدانيّاً وفي المواقع الإلكترونيّة، سواء تلك المناصرة أو المناهضة للحملة. أما بشأن السؤال «اللينينيّ» الأخير («ما العمل؟») في مقال صاغيّة، فإنّ الإجابة هي ذاتها التي يقدّمها المقال باستهزاء. أجل، هي «الضربات الموجعة» التي نكيلها لمناصري الاحتلال الإسرائيليّ، فنيًّا وثقافيًّا وأكاديميًّا، قبل (أو بموازاة) المشهدين السياسيّ والعسكريّ (سيبدو مثال جنوب أفريقيا هنا ومعركتها ضد «الأبارتايد» مثالاً مكرورًا على رغم فعاليّته).
أما القول إنّ «الشعوب تغيّرت، ولهذا باتت ثقافتكم لزوم ما لا يلزم» (كما ورد في رد صاغيّة على حسابه في الفايسبوك)، فهو تعميم خاطئ، عدا عن كونه مصادرةً لحرية الرأي المخالف. وكذلك، فإنّ اقتطاع ما يُرضينا من تغيّرات المزاج العام لإثبات فرضيّة ما، لا يعني بأننا نمتلك الحقيقة. إذ إنّ هذا المزاج متغيّر، كما صندوق الاقتراع متغيّر. أما الثقافة فينبغي أن تكون غير خاضعة لتلك التقلّبات السياسيّة، وإلا أصبحت، فعليّاً، «لزوم ما لا يلزم»، ومجرد لغوٍ إنشائيّ، وأشبه بصدى عابر للخطابات السياسيّة والتغيّرات الميدانيّة العسكريّة. وقد لا نعرف، حقيقةً، تحديد معالم الطريق الموصلة إلى فلسطين، ولكنّنا نعلم حتماً بأنّ الثقافة التابعة للسُّلطة هي أولى الإشارات الحاسمة للطريق التي لا تمرّ بفلسطين.
* كاتب سوري
الأخبار