العالم المنشغل بسورية عنها/ مالك ونوس
شاركتُ، في أثناء العدوان الإسرائيلي أخيراً، والمسمى عملية “الجرف الصامد” على غزة، في ندوة في مدينة ميلانو الإيطالية، على هامش مهرجان للتضامن مع الشعب الفلسطيني، في واحد من المهرجانات والتظاهرات والاحتجاجات التي عمّت العالم بشكل لافت ضد ذلك العدوان. وكان النقاش يدور حول العدوان، وحول غزة وفلسطين، تاريخاً وحرباً ومستقبلاً. كان جدول الأعمال محدداً من حيث المواضيع والوقت. التزمتُ بالمواضيع، ولم أتعمّد الشطط نحو الموضوع السوري، التزاماً بجدول الندوة، وللحاجة الماسة لإعطاء أكثر ما يمكن من المعلومات، وتقديم البديهيات التاريخية التي لاحظت، من أسئلة الحضور، افتقار كثيرين إلى المعلومات حولها، وتبيّنتُ أهمية تقديمها وتكرارها، لكسب مزيد من المتعاطفين مع قضية الشعب الفلسطيني. وبقدر ما كانت سعادتي كبيرة بتفاعل الحضور مع النقاشات والإصرار على المعرفة، لقلب الصورة المتكوّنة لديهم منذ أزمنة، أو لتكوين صورة لم تكن موجودة لدى بعضهم، وإذا كانت موجودة فضبابية، بقدر ما كان في قلبي غصّة، لعدم تذكر أحد من المضيفين، أو المشاركين، الموضوعَ السوري المتفجر.
يتكّرر الأمر مع كثيرين. وكثيراً ما تغيب القضية السورية عن النقاشات التي تجري بوجود سوريين، على الرغم من تصدّرها العناوين في وسائل الإعلام العالمية، أكثر من ثلاث سنوات ونصف، إلا أن القضية المهمة، وهي وقف هذه الحرب العبثية، بأي شكل، تبقى المنسية في هذه الوسائل، ولدى الدبلوماسيين في دول القرار. فقد نسي العالم سورية، على الرغم من أنه منشغل بتفاصيل التفاصيل فيها. العالم منشغل عن سورية بها. إنه منشغل بأعداد الإرهابيين الذين جذبتهم الحرب من كل بقاع الدنيا إلى أحضان داعش، لحمل سيفه. منشغل بمَن عاد منهم إلى بلاده، بعد أن جرب الحرب، واستمتع بالقتل، وانتصر لدينه بالذبح. ومنشغل باحتمال تجريب العائدين الحربَ في بلادهم. ومنشغل بحكايات الجهاد وأشكاله. بحكايات السبي وبأحكام الردّة وبفرض الجزية وبدخول الدين الحنيف أفواجا.
ليس لدى الولايات المتحدة الأميركية، صاحبة الأمر في هذا العالم، أي اهتمام بالحل في سورية. ليس في سورية ثروات، لا شيء يثير شهية السيد الأميركي نحوها. ليس لديه خطة، أو استراتيجية، بخصوصها. خطة مساعدته المعارضة ستنفّذ أواسط سنة 2015، يا إلهي! أستبقى الحرب حتى أواسط 2015؟ أم ستستمر ثلاثين سنة أخرى، كما قال ليون بانيتا، وزير دفاع أميركا السابق؟ ولم يتورّع رئيسه، باراك أوباما، عن الاعتراف بأنه ليس معنياً بإنهاء الحرب في سورية. ألم يقل لمحطة “سي بي أس” الأميركية، قبل أيام، إن إدارته معنية بمحاربة تنظيمي الدولة الإسلامية وخراسان، وليس حل المشكلة السورية. فهل سيستمر بحربه عليهما كثيراً؟ هل تستمر الحرب كثيراً؟ كلا لن تستمر سوى ثلاثين سنة أخرى، حسب قول وزير دفاعه السابق.
لا تثير سورية شهية السيد الأميركي، ولا تثير اهتمام فاعلين آخرين. فيها مشكلات وتشعبات كثيرة، هي فاقدة أي مستقبل، إنها دولة منهارة، فابتعدوا عنها! الكل يولي هارباً حين يتعلّق الأمر بسورية. فالدبلوماسية الدولية تولي وجهها شطر مشكلات أخرى في العالم، أكثر قابلية للحل، وتتطلّب مجهوداً أقل. متى كانت الدبلوماسية الدولية تنحو باتجاه الطرق السهلة؟ استقال مبعوثان دوليان، وهربا نحو الراحة، بعدما أخرجا كل ما في جعبتيهما من حلول ومبادرات. وبعدما فشلت ثلاث جولات من مباحثات السلام كانا يقودانها بين النظام والمعارضة. وغاب زعيمهما، بان كي مون، ونفض عن كاهله الموضوع السوري، ويرسل مبعوثاً جديداً ليحصي الخيبات.
حين ذبح تنظيم داعش الصحافي الأميركي، جيمس فولي، في التاسع عشر من أغسطس/ آب الماضي، عادت سورية إلى الواجهة، لكن في قميص داعش. فجأة، عرف العالم حجم الكارثة الواقعة، وحجم التهديد القائم والمتعاظم، مع كل يوم تستمر الحرب فيه، وتتخذ مسارات جديدة، وتظهر خلالها تنظيمات جديدة، تكون أكثر تشدداً من التنظيمات التي سبقتها. حين قطع رأس فولي، أصبح العالم عليلاً فجأة، وعليه إيجاد شيء ما للشفاء، حلفٍ ما. لكن، قبل رأس فولي، قطعت رؤوس كثيرة، وعلّقت على أسوار حدائق المدن، وتدحرجت، ككرات القدم، بين أرجل الكبار والصغار. قبل ذبح فولي، مارس داعش تطهيراً عرقياً، قضى على شعوب، واستعبد أخرى. بعد ذبح فولي، عادت سورية إلى الواجهة في داعش، لكن أخبار سورية بقيت طي الصمت. بقي الموت والبراميل المتفجرة والمجازر بحق الأطفال وقصص اللاجئين، بقيت مغفلة.
وحين حلّ بكوباني جرثوم داعش، عادت سورية إلى الواجهة، لكن بثوب الحرب على المدينة الصغيرة الواقعة شمال البلاد، وضج الإعلام بأخبار كوباني. نظّمت تظاهرات واحتجاجات كثيرة، انتصاراً للمدينة، وأخذ الناس باستعادة القضية الكردية وتقليبها لفهمها. وأهملت البلاد، فأصبحت سورية تلك البلاد التي تقع جنوب كوباني. لم يكن العالم يعرف أن داعش اجتاح، قبل ذلك، مدناً، وسيطر على قواعد عسكرية، وعلى مطارات، وبنى دولة بمؤسسات وجهاز استخبارات وجيش، قوته تعاظمت، ومجازره تعاظمت.
انتهت الحرب على غزة، هدأت التظاهرات التي كانت تقضّ مضجعه، هدأ الإعلام وهدأت الدبلوماسية. هدأت قصص الذبح، وحلّت محلها الغارات الدونكيشوتية على داعش. لكن، لم يرجع البريق إلى المشكلة السورية، ولم تجتذب هواة اجتراح الحلول. لا أحد يريد أن يقترب من الموضوع السوري، إنها الحرب التي أصبحت طبيعية. لا شيء يثير. إنه القتل اليومي، المجازر اليومية والبراميل المتفجرة التي تنزل على رؤوس الأطفال يومياً منذ سنين، فما الجديد؟ الجميع يعرف ذلك، فلنضع الملف في الخزانة ولنُحكِم إقفالها. أو فلنضع السوريين قتلى، وأحياء في طريقهم للقتل، في بئر عميق، ونحكم إغلاقه، ولتبقى صرخاتهم في البئر، ويبقى أزيز الطيران تحت مائه، ولتتكسر الموجات الارتدادية للتفجيرات على جدرانه، ولتبقَ قصص المجازر حبيسة عتمته. ها هو العالم يتناول كأس الشاي بعيداً عن السوريين، بعد أن أخمد أصوات استغاثاتهم، وارتاحت أذنه من أنين الثكالى منهم.
العربي الجديد