العدالة بعد الثورة، هل هي طموح مستحيل؟
محمد الحدّاد
المتمسكون بالثورة الفرنسية نموذجاً لكل ثورة قد لا يصلون إلى حدّ المطالبة بنصب «المقصلة» مجدداً، لكنهم يحنّون إلى وصفة «المحاكم الثورية» لحلّ إشكالية العدالة. وللمقصلة تاريخ طريف، فقد ابتدعها طبيب فرنسي سعى، في ما يزعم، إلى تسريع وتيرة إعدام البشر مع الرأفة بهم من عذاب الشنق، فاخترع آلة المقصلة في إطار المساهمة في نجاح الثورة. والمحاكم الثورية في فرنسا وروسيا وإيران وثورات أخرى على النمط الكلاسيكي، تسبّبت في مظالم كثيرة، وتطوّر الوعي الكوني لحقوق الإنسان بما يجعل المقصلة والمحاكم الثورية مجرّد ذكرى لعهود بائدة.
بالمثل، أثبتت السياسات الاستئصالية بعد الثورات، وآخرها برنامج اجتثاث «البعث» في العراق، أن هذه الوصفة لا خير فيها ولا تفي بالغرض، فهي تتضمّن خمس مساوئ أساسية: أولاً، تشلّ السير اليومي للجهاز الإداري وتضرّ بمصالح المواطنين، بما في ذلك الجهاز الأمني، ثانياً، تُعاقب جماعياً شريحة من الناس على أساس الانتماء وليس على أساس اقتراف الجريمة. ثالثاً، لا تأخذ في الاعتبار أن الانتماء إلى الأحزاب الحاكمة كان شبه إجباري لأصحاب الوظائف العليا. رابعاً، لا تأخذ في الاعتبار مسؤولية كثيرين من غير المنتمين إلى الأجهزة الرسمية في خدمة الاستبداد (في عديد الحالات، يمنع الانتماء الحزبي على رجال الأمن والقضاء، مع أن بعضهم يتحمّل مسؤولية أساسية في الأوضاع البائدة)، خامساً، تعطي السياسات الاستئصالية الفرصة لتحويل عملية الاجتثاث إلى وسيلة ضغط سياسي ضد المنافسين، فالاتهام بالباطل متيسّر في ظل الارتباك العام. بل قد تعطي الفرصة للابتزاز المالي للأشخاص والتستّر عليهم مقابل الرشوة أو، بالعكس، تلويث سمعة الأبرياء ممن يرفضون الخضوع للابتزاز أو يعارضون التوجهات السائدة.
ولكن، لا يعني رفض أسلوب «المحاكم الثورية» و «خطط الاجتثاث» أن العدالة تغدو بعد الثورة طموحاً مستحيل التحقيق. على العكس، فطيّ صفحة الماضي بسرعة ومن دون تعمّق يؤدي إلى تعميق الشعور بالظلم لدى الضحايا، والأخطر أنه ينتهي إلى تضييع فرصة التعلم من الماضي، لمنع تكرار مآسيه. فلا مجال للعفو والمصالحة الوطنية إلا بعد تحديد المسؤوليات وتوضيح الحقائق ومعاقبة من ثبتت في حقهم الجريمة والمسؤولية، والتعويض لمن تضرّر من الظلم والاستبداد.
ثمة آليات حديثة تحقّق العدالة من دون أن تقع في مساوئ المحاكم الثورية وسياسات الاجتثاث، ومن الضروري أن تعمل بلدان الثورات العربية على الاستفادة منها إذا أرادت أن تخرج من المآسي الحالية التي تتراوح بين إبقاء المجرمين من دون عقاب- بما ينمّي الاحتقان لدى الشعوب- والنفخ في روح الثأر التي تعارض مبادئ العدالة وحقوق الإنسان. ومن أولى هذه الآليات وأوكدها القيام بعملية إصلاحية سريعة للجهاز القضائي العادي، كي يسترجع الصدقية من دون أن يفقد نجاعة العمل، لأن هيبة القضاء إذا سقطت تصعب استعادتها بسرعة، ولا يمكن للقضاء أن يشتغل من دون هيبة القاضي. وفي الآن ذاته ليس الجهاز القضائي إلا أحد أجهزة الدولة التي نخرها الفساد، فهو ليس فوق المحاسبة، بيد أن إصلاحه أولوية الأولويات، ينبغي أن يتمّ بحكمة ولا يُترك لضغط الشارع.
ومهما توافرت هذه الحكمة في إصلاح القضاء العادي، لا يمكنه أن يضطلع وحده بمهمات المرحلة الجديدة، بل من الخطر أن يترك وحده في مواجهة تعقيدات هذه المرحلة، لأن القوانين والإجراءات لم توضع لهذا الصنف من الأحوال. فلا يمكن القضاء العادي أن يحافظ على هيبته إلا إذا أُعفي من صنف من القضايا ذات الحساسية السياسية المفرطة، وعهد بهذا الصنف إلى عدالة انتقالية موقتة، تشرف عليها هيئة من قضاة وسياسيين محايدين ونزهاء، فيمكن للطرفين أن يراعيا حساسية القضايا، ويوازنا بين متطلبات العدالة وأوضاع المجتمع وأهداف الثورة.
هب أنّ جنديّاً عهد إليه بحراسة مكان معيّن وأعطي الأوامر بإطلاق النار إذا لزم الأمر، وأنه اضطر إلى ذلك في ظرفية خاصة فتسبّب في القتل: إنه من جهة يستحقّ العقاب الأشدّ لأنه قاتل، ومن جهة أخرى نفّذ الأوامر وتصرّف كما يقتضيه واجب الجنديّة. ليست هذه الأوضاع مما يمكن القاضي العادي أن يبتّ فيها، وإذا تركناها للقضاء العادي فإن الأحكام قد تأتي شديدة التفاوت بين قاض وآخر، بما يتعارض ومبدأ الإنصاف.
إنّ التكامل بين قضاء عادي وقع إصلاحه وقضاء انتقالي وقع إرساؤه لفترة موقتة، من شأنه أن يجعل العدالة بعد الثورة أمراً ممكناً. تضاف إلى ذلك آليتان مهمتان: أولاهما آلية «التدقيق» التي تقوم بديلاً عن آلية الاجتثاث، والتدقيق هو التأكد من تأهل أصحاب المناصب لتولّيها، والتأكد من أنهم التزموا النزاهة أثناء عملهم السابق، وبذلك يمكن التخلص من العديد ممن يقفون حجر عثرة أمام البناء الجديد، من دون الوقوع في تصفية حسابات ومظالم وعقوبات جماعية.
وثانيتهما آلية التعويض الجزئي التي تسند للمتضررين من الأوضاع السابقة تعويضات جزئية وفورية، كي تخف درجة الاحتقان في المجتمع، ويشرق الأمل في نفوس جميع المظلومين بأن حقوقهم قابلة للاسترداد ولو بعد حين، ولا تكثر المطالبات وتتعاظم بما يغدو مستحيلاً على السلطات الجديدة تحقيقه. فالمهمّ أن يستقرّ في نفوس الناس أن العدالة آتية.
إذا نظرنا إلى بلدان الربيع العربي، نجد أنها كلها لم تستفد من هذه الآليات الحديثة. ففي مصر، لم يطرح «الإخوان المسلمون» موضوع العدالة الانتقالية، ونرى تبعات ذلك في الأحداث الحالية. وفي تونس، أنشأت الحكومة ذات الغالبية «الإخوانية» منذ أكثر من سنة، وزارة للعدالة الانــتقالية ولكن لم يصدر بعد قانون العدالة الانتقالية. وفي ليبيا، بذلت مجهودات محمودة لكنها لم تبلغ المطلوب. أما سورية، وقد بدأ فيها شبح المحاكمات الثورية، فإنها قد تكون المعنية قبل غيرها بالتفكير في هذا الموضوع قبل أن يعمّ السيل، ومن الضروري للمعارضة أن تنشر بين صفوف مسلّحيها الآن هذه الثقافة الجديدة.
الحياة