العدل المناخي والدولة الرأسمالية: صنوان لا يلتقيان/ صبحي حديدي
في مناسبة قمة المناخ، التي تحتضنها باريس هذه الأيام، جدير بالدولة المنظمة أن تستذكر واقعة مناخية فريدة، تستحق التأمل واستخلاص الدروس. ففي صيف العام 2005، قضى نحبه أكثر من خمسة آلاف فرنسي وفرنسية، جرّاء موجة طقس حارّ لم تدم أكثر من أسبوع. لا أحد، بالطبع، يعترض على أطوار الطبيعة حين تقسو على الكائن، غير أنّ الطبيعة لم تكن مسؤولة وحدها عن إزهاق كلّ هذه الأعداد الهائلة من الضحايا، وكان ثمة مسؤولية مباشرة يتحملها الإنسان الذي امتلك من أسباب التكنولوجيا ما يكفي لقهر ــ أو في الحدّ الأدنى السيطرة على ــ سورات غضب الطبيعة.
والإنسان، في الحالة التي نشير إليها تحديداً، ليس سوى الدولة المعاصرة: الرأسمالية غالباً، المنتَخبة ديمقراطياً لكي تكون مسؤولة، ولكي تلعب دور راعية الرفاه والرخاء والأمن والطمأنينة.
ومصرع أكثر من خمسة آلاف فرنسي وفرنسية بسبب أيّام معدودات من المناخ الحارّ بدا، في جانب مشروع من المسألة وقياساً على أعداد الضحايا الأبرياء، أشبه بـ»11 أيلول/ سبتمبر» أخرى يشهدها الغرب المعاصر؛ مع فارق أنّ الضحايا الفرنسيين لم يسقطوا على يد انتحاريي الطائرات الخارقة للأبراج، وإنما سقطوا ضحية مزيج من تعبيرات الطبيعة العشوائية، وإهمال الدولة التي لا يتوجّب أن تكون عشوائية. ومن المدهش أنّ كبش الفداء الوحيد الذي قدّمته الحكومة الفرنسية، يومذاك، كان مدير الصحة العامة في فرنسا، والذي قدّر أنّه يتحمّل بعض المسؤولية المباشرة عمّا حدث. لا وزير الصحة استقال، ولا رئيس الوزراء اكترث بقطع إجازته في الريف الفرنسي، ولا الرئيس (جاك شيراك، في حينه) توقف عن زيارة المتاحف والمعالم السياحية حيث كان يقضي عطلته السعيدة في كندا.
الطبيعة غاشمة كما يُقال لنا في سياق فلسفة معقدة طويلة عريضة، وهي صمّاء بكماء عمياء تضرب على حين غرّة وبلا هوادة. ولكنّ هل كانت السيول أو الفيضانات أو الأعاصير، هي التي أودت بحياة آلاف الفرنسيين؛ أم تهاون الدولة الرأسمالية الراعية في قطع إجازتها الصيفية (الطقس المقدّس في تقاليد الشغل الرأسمالية الحديثة)، والمبادرة إلى توظيف ما تملك من تكنولوجيا متطوّرة من أجل إنقاذ الأرواح البشرية (المقدّسة بدورها في الفلسفة الليبرالية الرأسمالية)؟ وهل تبطش الطبيعة بالكائن دونما أسباب يصنعها الكائن نفسه، حين يخرّب توازن عناصر الطبيعة، ويدمّر خيراتها، ويسمّم جوفها وسطحها وسماءها؟
وهذه الحكاية المأساوية الفرنسية تعيد تذكيرنا بمسألتين، بين جملة اعتبارات أخرى: الموقف من الطبيعة والبيئة، ومصائر التاريخ في ظلّ استمرار «انتصار» الدولة الرأسمالية المعاصرة. ففي مؤتمر المناخ والبيئة، الذي عقدته الأمم المتحدة في كيوتو، اليابان، قبل 16 سنة؛ تجرّدت الجلسات على الفور من طابعها الكوني العالمي، وتُركت جانباً هواجس وهموم العالم الأكبر والأفقر والأعرض غير المصنّع، وانقلبت إلى بروفة مكرورة لما كان قد جرى قبلئذ في قمّة دنفر للدول السبع المصنعة + روسيا المريضة. آنذاك مارست الولايات المتحدة ما يكفي من الخيلاء على حليفاتها الأوروبيات والآسيويات، وطرحت النموذج الأمريكي في السياسة والاقتصاد والمجتمع والثقافة، بوصفه النموذج الكوني الأصلح والأنصع والأكثر شباباً. وبعد يوم واحد فقط، في أروقة الأمم المتحدة، ومن منابر مؤتمر الأرض الثاني؛ مارست الولايات المتحدة الخيلاء ذاتها، مترجمة هذه المرّة إلى ما يشبه السادية البيئية.
الأرقام ما تزال على حالها، تقريباً، منذ قمة دنفر ومؤتمر الأرض. وهي تقول إن الأمريكي يسمّم البيئة ثلاث مرات أكثر من أيّ أوروبي، وثلاثين مرّة أكثر من المكسيكي، وخمسين مرّة أكثر من أيّ مواطن من مواطني العالم الثالث. والأرقام ذاتها تقول إن إسهام الولايات المتحدة في التنمية البيئية الكونية لا يتجاوز 0.1 من الناتج القومي الإجمالي؛ على العكس من تعهد الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب، بأنّ الولايات المتحدة ستلتزم بمعدل 0.7، والذي اعتُبر سقف الحدّ الأدنى في مؤتمر ريو 1992.
وما يزال علي حاله موقف الولايات المتحدة الرافض لأي بحث في مسألة تخفيض كميات غاز ثاني أوكسيد الكربون التي تضخها الصناعة الأمريكية في الفضاء الكوني المشترك الذي يظلل البشرية جمعاء. الجديد في الموقف الأمريكي هو اقتراح التمايز الذي تقدّمه واشنطن وكأنها تقدّم أقصى التنازلات وأصعبها وأقساها. والتمايز يعني، ببساطة، أن ما ينطبق على دول العالم لا ينطبق على الولايات المتحدة، التي ينبغي تمييزها عن سواها.
وفي ثنايا هذه المرونة، يطرح الأمريكيون استعداد الصناعات الوطنية الأمريكية لشراء الحصص القانونية الممنوحة لدول أخرى بموجب الكوتا الإجمالية لكمية غاز الكربون المسموح بإطلاقها. على سبيل المثال، تريد الولايات المتحدة شراء حصة تنزانيا أو السنغال أو الكويت أو… (وهذه جميعها حصص وهمية لأنّ هذه الدول ليست مصنّعة على نحو يجعلها مضطرة إلى إطلاق غاز الكربون)، وذلك لاستخدامها كحصص أمريكية فعلية!
مَنْ كان منهم بلا خطيئة، فليرجم الأمريكيين بحجر، وبحجر ثقيل أيضاً. وأن تكون أمريكا هي أمّ الخطايا، ثمٌ أن تعلن على رؤوس الأشهاد أنها ماضية في ارتكاب خطايا جديدة وربما تجديد الخطايا القديمة؛ أمر لا يغيّر من جوهر المعادلة التي تقول إن التفاوت بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية المصنّعة ليس أكثر من تفاوت نسبي في أرقام التصنيع والإنتاج، وبالتالي في معدّلات الإسهام في تسميم البيئة. والثابت الصريح هو أن بضاعة مؤتمر الأرض الأول في ريو 1992 ارتدّت إلى أهلها الذين تباروا في اعتلاء منابر مؤتمر الأرض الثاني في نيويورك 1997، والذين تباروا بعدئذ في مؤتمر كيوتو، وقمة الأرض في ريو دي جانيرو1992؛ و»خطة العمل» في بالي، 2007؛ ثمّ كوبنهاغن، كانكون، دربان، الدوحة، وارسو، ليما…
والحال أن الأهداف الأربعة التي تعلنها قمة باريس (التفاوض حول اتفاقية كونية تضبط الاحتباس الحراري، وإلزام كل دولة بإيضاح إسهامها الوطني في هذا، وتوفير البُعد المالي للدول النامية، وتقوية دور المجتمع المدني)؛ سوف توضع على محك الصياغة الملموسة بادىء ذي بدء، قبل أن يطمح العالم إلى رؤيتها تخضع لاختبار التنفيذ. ذلك لأن «العدل المناخي» وصناعة الدولة الرأسمالية المعاصرة، صنوان لا يلتقيان بالضرورة، بل حدث ويحدث العكس غالباً.
وليست الحرائق التلقائية، أسوة بعشرات الظواهر التي يبلغ فيها غضب الطبيعة ذروة غير مسبوقة، سوى الترجمة الفعلية المستدامة (على غرار تلك «التنمية المستدامة» التي يجري اجترار آمالها وطموحاتها!) لذلك البون الشاسع الذي يفصل الصنوين. الدول المصنّعة الكبرى، بما في ذلك الصين، ودون استثناء الهند والبرازيل، لا تقتدي بالكذب الذي تمارسه الولايات المتحدة، فحسب؛ بل صارت تستهوي، أيضاً، تكتيك اتهام الدول النامية بـ»التشدد»، وعرقلة التوصل إلى اتفاق كوني! ولن يعدم المرء رأياً صريحاً، في مجلة معبّرة عن شؤون وشجون الدولة الرأسمالية المعاصرة مثل «فورين أفيرز»، يساجل بأن أولويات التصنيع أكثر قداسة من «التعبد الرومانتيكي» لأمّنا الطبيعة!
وبهذا المعنى فإن العديد من المنظمات الأهلية التي تدافع عن «العدل المناخي»، وتقاوم النفاق بصدده، لم تعد تكتفي بنقد القمم الكونية وكشف جوانب النفاق التي تكبلها دائماً؛ بل بدأت تنادي بضرورة نفض اليد منها نهائياً، لأنها محفل رجال أعمال ومؤسسات مالية، وهيهات أن تكون قمماً تتوسل صالح الإنسان وأرضه.
الأمر الذي لن يفلح في تهدئة غضبات الطبيعة، على الفقير الكوني في المقام الأول!
٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
القدس العربي