العدوُّ “العثماني” للجمهورية التركية
جهاد الزين
هناك مآلان لـ”الربيع العربي” كلاهما ملائم لـ”المزاج الكردي” الذي يتأكد يوما بعد يوم أن العالم العربي “الجديد” يسير نحو أوضاع لصالحه. فإذا أسفر “الربيع” عن أنظمة ديموقراطية في دول بقيت موحّدة، فهم سيكونون جزءاً من المستفيدين كغيرهم، وإذا أدّى الى تفتيت سوريا والعراق فهي فرصة بناء كياناتهم “المستقلة”.
عام 1995 قال لي جلال الطالباني وكنتُ بضيافته على الغداء في منزله في أربيل بعد مقابلة طويلة أجريتها معه وكان معنا حول طاولة الغداء عددٌ من اليساريين الأكراد بينهم أعضاء في الحزب الشيوعي العراقي… قال لي:
نحن الأكراد ستنتهي مشكلتنا مع العرب والأتراك إذا قبلوا بعودة الدولة العثمانية. ففي الزمن العثماني كنا متساوين معهم وخاضعين لدولة واحدة لنا فيها مقام وقيمة. أما بعد زوالها فقد حصل العرب على اكثر من عشرين دولة والأتراك على دولة شاسعة ونحن لم نحصل على شيء. فلن نقبل بذلك إلا إذا حصلنا على دولة خاصة بنا.
ثم أشار، من لم يكن يحلم أنه سيصبح رئيس الجمهورية المقبل لدولة العراق الفدرالية
بـ”كاملها”، أشار براحة كفّه اليمنى الى ضيوفه من بعض القيادات الحزبية الكردية ثم قال لي بمزيج من الشطارة والمناورة الثعلبيتين والظريفتين المشهور بهما: هؤلاء الأخوة يريدون كردستان كبرى موحدة موزّعة الآن على أربع دول بينما أنا لا أريد سوى إقليمٍ كرديٍ فدراليٍ داخل العراق… فحاوِلْ كعربي أن تقنعهم بوجهة نظري!
بدأ الربيع العربي من حيث لم نكن نعلم… من العراق. اقْتُلِع النظام الاستبدادي الصدّامي الذي لا نظير له على يد القوات الأميركية والتأمت أول محاكمة لديكتاتور عربي في قلب بغداد فيما كان الأميركيون قد ساعدوا على وصول الأحزاب الشيعية الى السلطة في بغداد ولو على رأس دولة مفككة بحيث أن هذه الأحزاب، ومعظمها ديني أصولي، تحكم من العاصمة بغداد حتى البصرة ومرفئها على البحر جنوبا و على مسافة بين المدينتين العريقتين تمتد حوالى ستماية كيلومتر.
… ثم ظهرت أول بوادر “الربيع العربي” في طهران أيضا دون أن نعرف يومها أنها مقدمات تغيير عربي! مع محاولة القيام بثورة قادتها رموزٌ اساسيةٌ من داخل النظام الديني الإيراني بدعم أميركي وغربي “تويتري” مستند الى دينامية شبابية ونسائية عميقة في المدن الإيرانية… ولكن ما سيفشل عام 2009 في طهران سيظهر تباعاً أواخر العام 2010 في العديد من دول العالم العربي وبنوع التحالف الحَيَوي نفسه (بمعزل عن التفاصيل هنا وهناك) بين الديناميات الداخلية والخارجية ضد أنظمة استبدادية… وسينجح تحديدا في تونس ومصر بشكل ساحق وسريع وسلمي وسيحتاج الى تدخُّل أطلسي حاسم في ليبيا بينما سيتضح رغم وجود الديناميات الأصلية نفسها شبابا و نساء ضد الاستبداد أن سوريا “الليفانتية” ذات وضع معقّد جدا طائفيا ومذهبيا، وأنها جيوبوليتيكياً حساسة جدا. فلم نكن نعرف أن الخارطة السورية تقع في نظر قوتين عظميين، العسكرية الروسية والإقتصادية الصينية، على الحدود المباشرة لأوضاعهما بل لتركيبتيهما الداخليّتين لا سيما نظرتيهما الى الإسلام السياسي. كل هذا “الاحتقان” الجيوبوليتيكي لم نكن نعرفه. فيما البعد الداخلي (لا الإقليمي ولا الدولي) للموقف الأميركي هو نفسه في سوريا والعراق: السلطة لأحزاب الأكثرية المذهبية في كل من البلدين والتي هي دينية أصولية في الحالتين السنية السورية والشيعية العراقية.
لكن الخارطة السورية كشفت عاملاً آخرَ هو أن “الربيع العربي” بضفّتيه العراقية والسورية يشكّل فرصة تاريخية للقوميين الأكراد بالمعنى الحرفي للكلمة لم يتوفر مثلها بنظرهم منذ نهاية الحرب العالمية الأولى.
هناك مآلان لـ”الربيع العربي” كلاهما ملائم للقوميين الأكراد بل لـ”المزاج الكردي” الذي يتأكد يوما بعد يوم أن العالم العربي “الجديد” يسير نحو أوضاعٍ جديدةٍ لصالحه. فإذا أسفر “الربيع” عن أنظمة ديموقراطية في دول بقيت موحّدة، فهم سيكونون جزءاً من المستفيدين كغيرهم، وإذا أدّى “الربيع” الى تفتيت سوريا والعراق فهي فرصة بناء كياناتهم “المستقلة”. لهذا ربما يكون الأكرادُ هم الواثقين الوحيدين أن ما يحدث هو قطعا ذو مضمون “ربيعي” أيا تكن تطوراته، بينما النخب العربية في المشرق والمغرب حتى الأكثر حماسا للتغيير والأكثر اندفاعا نحو الحرية كخيار غير مشروط ليست جميعها متأكدة من أن النهايات ستكون سعيدة، أي توحيدية وديموقراطية، أم تفتيتية وعاجزة تحديثياً في ظل التقسيم السوداني والكابوس الانفصالي العراقي والخلخلة الداخلية لبعض الخرائط في العمق الإفريقي؟ ففي افريقيا ظهرت ملامح هذه الخلخلة في انفكاك شمال مالي عن الدولة المركزية بقيادة انفصاليين من “الطوارق” بثوب سلفي حتى ليمكن القول إن أول جمهورية (إمارة) لطوارق الصحراء الكبرى تشكّلت مع أحداث مالي… وهذه تطورات ليست بعيدة عن أحد بلدان “الربيع العربي” وهو ليبيا. فسقوط العقيد القذافي الذي كان يمسك بلعبة “الطوارق” عبر دعم تجمعات معينة في جنوب الصحراء الليبية قد أفلت القوةَ الإنفصاليةَ في مالي من عقالها وربما انتقلت ديناميّتها إلى دول أخرى في المنطقة الصحراوية؟
المفارقة الكبرى في هذه المرحلة غير المسبوقة أن الحركة السياسية الكردية في “الواقع الرمزي”، لا الاسلاميين الأتراك بقيادة حزب العدالة والتنمية، هي الفئة التي تمثل العثمانية الجديدة في الشرق الأوسط إذا كانت العثمانية تُقاس بصاحب المصلحة في انهيار خرائط الدول التي وُلدت من “جثة” خريطة الدولة العثمانية.
لكن هذه العثمانية الجديدة في الحالة الكردية مشروطة بتعريف جوهري وحيد في ظل استحالة تعريفاتها الأخرى الميّتة: هي تفتيت الخرائط. والأكراد حتى استقرار خرائطهم الجديدة، إذا كانت هناك خرائط جديدة، يواصلون موضوعيا هذا الدور، دورَ تهديد خرائط الدول الأربع القائمة وهي سوريا والعراق وتركيا وايران مما جعل معلّقا وأكاديميا تركيا يصفهم ذات يوم بأنهم الجماعة “المدرَّبة على إضعاف العرب والأتراك والإيرانيين”.
عصرية الأتراك وتقدمهم عن العالم الإسلامي ينتميان الى حداثة سيكون من الوهم الخطِر تحويلها الى وقائع جيوبوليتيكية جديدة قد تصبح الجمهورية التركية، الدولة الوطنية للأتراك، ضحيَّتَها. فالتوسّع السياسي التركي داخل سوريا ضمن التحالف الدولي الذي يضغط لدعم الثورة السورية قد يتحوّل الى توسّع للتمرد الكردي داخل تركيا؟
النهار