العلمانيّون وخصومُهم/ أحمد بيضون
أعود من حيث انتهيت في عُجالتي الأخيرة.
في غداة ثورة 25 يناير/كانون الثاني2011، اقتضت المناقشات المتعلّقة بطبيعة النظام المصري الجديد تجديد البحث في مبدأ «الدولة المدنية». ونجد بين أيدينا محاولة إسلامية للاستيلاء على هذا المبدأ تستحقّ أن نقف عندها. تلك محاولة أحمد سالم الذي وقّع باسم «أبو فهر السلفي» كتيّباً جعل موضوعه «الحكم المدني». وهو يوضح فيه مستعيناً على ذلك ابن تيمية وآخرين من أعلام الفقه أن من يَلُون الأحكامَ في الدولة الإسلامية عليهم أن يعتمدوا شرع الله مرجعاً وحيداً لهم. ولكنه يضيف أن هؤلاء الأفراد الذين يعيّنهم أناس آخرون ولا يحصُل تعيينهم بأمرٍ ربّاني لا يُعَدّون، بأيّ معنىً، بشراً معصومين. وعليه يبقى تفسيرهم الشرع وكذلك اتبّاعهم إيّاه قابلَين للأخذ والردّ. ويصحّ أن تطلق على حكمهم صفة المدني لجهة أنه لا يسعه الاعتداد بمصدرٍ إلهيّ فلا يعتبر حكماً ثيوقراطياً.
هذه السلطة تبقى، في اتّباعها الشرع، أسيرة حدود بشرية كلّياً تحدّ عقول متولّيها وإراداتهم. عليه لا تكون الدولة المسايرة لهذا التصوّر دولة دينية في عُرْفِ أبي فهر. فإنما هي دولةٌ مدنية وليس لهذه الصفة أن تمنع، بأيّ حالٍ، وصفها بأنها دولةٌ إسلامية. ندرك إذن أن الدولة الإسلامية شيء والدولة الدينية شيء آخر مختلف ٌ عنها جدّاً. هذا ولا ينسى أبو فهرٍ تذكيرنا بأن هذه الدولة التي يمثّل التزامُها الشريعة ضمانَ شرعيتها الوحيد ليست بالدولة العلمانية.
ما الذي تفقده هذه الدولة بافتقادها الصفة العلمانية؟ لا يصعب علينا أن ندرك أن المساواة بين المواطنين هي رأس ما يضحّى به ههنا. فإن المؤمنين (أي المسلمين) يعدّون ذوي امتيازٍ تلقائيّ على سواهم من الأهلين. وتتعرّض حرّياتٌ مختلفة للامتهان ويصبح غير المسلمين هم الضحايا المعرّضين بالأوّلية للتضرّر من امتهانها بحكم استضعافهم. على أن الحرّية التي يبدو غيابها ساطعاً عن عالم أبي فهر الذهني إنما هي تلك التي تحتلّ موقع الركيزة من تصوّر العلمانية وهي حرّية الضمير. ويعاني المسلمون الذين يحال بينهم وبين تغيير معتقدهم من غيابها فوق ما يعانيه أولئك الذين يتعيّن عليهم القبول بموقعهم الدونيّ لقاءَ ما يسلَّم لهم به من هذه الحرّية. وأمّا العلمانية فإن ما يسبق رعايتَها توزّعَ المعتقدات الجماعية في المجتمع إنما هو، في عُرْفها، حقّ كلّ من المواطنين في اعتناق الاعتقاد الذي يرضيه وحقّه، إذا لزم الأمر، في تغييره مستجيباً لما تدعوه إليه خبرته.
فهل يجدي أنصارَ العلمانية في مجتمعاتنا التي يغلب عليها الإسلام شيئاً أن يقدّموا تضحيات تتناول المضمون أو أخرى تُقْتصَر على الشكل وحسب فيرفعوا مثلاً راية الحكم المدني عوضاً عن راية اخرى يرونها أشدّ استنفاراً للخصومة هي راية العلمانية؟ وألى أيّ مدىً يمكنهم المضيّ في تكييف العلمانية أو في تلطيفها إذا هم شاؤوا الإبقاء على الجوهر؟ هل يجدي رشّ بعض السكّر على اللقمة المرّة وكأنما يراد تهريب نظامٍ للحكم برمّته يرفضه المستهدفون به؟ وهل يصحّ، من الجهة الأخرى، أن يضحّى بمبدأ السيادة الشعبية وهو الضامن لحرية المواطنين وللمساواة بينهم؟ وهل يستقيم أن ينكر على هذه السيادة موقعها بما هي مصدر التشريع؟
وهل ينكر أن حرّية الضمير، وهي المقدّمة بين الحرّيات، مورثة لصنوف شتّى من التنوّع سواء أوجد التعدّد المذهبي في المجتمع أم لم يوجد؟ وإذا كان يتعيّن على الدولة العلمانية أن تحمي المذاهب الدينية وأن تضمن لها حرّية الشعائر في حدود النظام العامّ فهل يعتبر مشروعاً أن يجاز للطوائف ضمّ الأفراد ضمّاً حكميّاً، على ما هي الحال في لبنان، إلى جماعات لا يرغبون في الانتماء إليها؟ أليست هذه القاعدة، وهي داخلة في جوهر النظام القانوني والسياسي في لبنان، منافيةً لحرّياتٍ أساسية يضمنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؟ وهل يفعل شيئاً سوى الإفراط في الهزل، من جهةٍ أخرى، من يطلقُ صفة العلمانية على النظامين البعثيين في سوريا والعراق؟ لا نشير هنا إلى اتّخاذهما العنوان العلماني قناعاً لطائفية معلومة في الحالتين. وإنما نرى أولى بالإشارة ضراوة الحرب التي شنّاها دائماً على حريّة الضمير حيث وجد لها أثر. ونشير للمساق نفسه أن التصدّي بالعنف لحركات أو طواقم ذات صفةٍ دينية لا يسبغ صفة العلمانية على الفاعل تلقائياً. فإنما يقبع جذر هذه الأخيرة في تربة أخرى بعيدة كلّ البعد عن هذه.
من جهتها، تعتمد الدولة الدينية أو المذهبية منطلقاً لها التعيينَ الرمزي لمن لهم مقام السادة ورسمَ نطاق المجال الذي هو مجالهم ومجال الجماعة التي ينتمي إليها أتباعهم. هكذا تحجّب هذه الدولة النساء وتفرض عليهن نظاماً سلوكياً مغالياً في دقّة أحكامه وذلك لإبلاغ سلطانها عمقَ الأجساد والبيوت. والحال أن أجسادَ النساء ودواخلَ البيوت يمْثُل فيها شرفُ الرجال أيضاً. عليه يبسط أصحابُ السلطة الدينية سيطرتهم على الرجال حين يجعلون شرف هؤلاء تحت رقابتهم عبر تحكّمهم بسلوك النساء. ويصبح في وسعهم مذّاك أن يزيدوا في كثافة الشعائر بحيث تتّخذ صفة الوسواس وأن يميلوا بهذه الشعائر نحو الأداء الجمعي. ذاك ما يفضي، في اعتبارهم، إلى القضاء على كلّ مقاومة، مباشرةٍ أو غير مباشرة، لهيمنتهم.
ما يزال المشروع الكلّي للدولة الدينية مشتّتا نسبيّاً، في المجال العربي الراهن، متباين درجات التحقّق. ولكنه يتوفّر على موارد مهولةٍ من كلّ نوعٍ في المجال المذكور. فهو يفيد من أساليب عملٍ مجرّبة وهذه أساليبُ ليس في ترسيماتها العامّة شيءٌ إسلامي سوى جانب من مصطلحها. وأما السلطة التي تفرزها هذه الأساليب فليست إلهية الصفة بأيّ حال. وإنما هي سلطة فئةِ من الناس تضرب فروعها في كلّ اتّجاه أو تملك إمكان التفرّع في الأقلّ.
لا يجزي التيّار العلماني أن يواجه مارد السلطة الدينية مواجهةً طويلة النفَس بما يقْرُب أن يكون لَعِباً بالألفاظ ولا يجزيه أن يواجهها بتنزّلاتٍ جوهرية وتسويات إستراتيجية في كلّ حال. بل إن على المقاومة العلمانية أن تستبقي لنفسها درجة الشمول المكافئة لتلك التي يتميّز بها الخصم. يبقى أن أولى مهمّات التيّار العلماني هي تقديم البرهان على وجوده. فالواقع الذي لا بدّ من التصريح به أن التيار العلماني العربي مردودٌ في الوقت الحاضر أسفلَ سافلين. ولا يبدو منظره مثيراً لغير الشجن إذا ما هو قيس بمنظر مخاصميه.
ومن ذلك أن بعضاً من أقرب الجماعات إلى الاضطلاع بعبْ المقاومة العلمانية تؤثر إخفاء رأسها في حضنٍ لا يحمي هو حضن المنطق الأقلّي. هي خائفة على حرّياتها وهذا خوف ممتّعٌ بالشرعية وبالواقعية معاً. ولكن أين لخطّ الدفاع الأقلّي، وهو الساعي إلى تعميم التمييز والمُدافع أيضاً عن الطغاة، أن يأمَلَ الصمودَ فيما هو يسهم في طمس الفوارق في صفوف الأكثرية إذ لا يجد ما يعرّف به نفْسَه غير مجابهتها؟ أليس أقربَ إلى الحكمة وأبعدَ، في الوقت نفسه، عن المذلّة أن يتّجه السعي نحو نبذ التمييز بصوره جميعاً عوضَ المثابرة، بقوّة العادة وحدها، على البحث عن ملجأ في تمييزٍ تؤمل منه الحماية ولكنه يزداد قرباً كلّ يومٍ من دنيا الوهم؟
كاتب لبناني
القدس العربي