الغوطة: مجلس الأمن وخيارات العدم/ أسامة نصّار
يريدُ أهالي الغوطة اليوم أن يُعاملوا كبشر، تماماً مثل أولئك الذين يتخذون القرار حول مصيرهم. يريدون أن تتوقف المحرقة المستمرة بحقّهم، وأن يعرفوا مصيرهم والشكل الذي سيؤول إليه مستقبلهم ومستقبل أولادهم. الحقيقةُ هي ما يطلبونه.
*****
بينما كان نور يجعل من جسده ترساً يحمي به خطيبته أماني من رشقة الصواريخ التي مَشَّطَت مكان عملهما، لم يكن يفكر بقرار من مجلس الأمن يوقف زخّ الحمم حولهما وعلى كل شوارع مدينته دوما. ربما كان يحلم بسداد ديونه واستكمال لوازم العرس. مؤكدٌ أنه لم يفكر بهدنةٍ لثلاثين يوماً سيتم مسخها -رغم القرار الأممي- إلى خمس ساعات، وانتهاكها في كل لحظة عشرات المرات.
ارتقى نور، وحافظت أماني على روحها كاملة عذبة، وعادت تتابع حياتها شامخةً، وإن فقدت قدمها!
أدركَ يحيى أن أباه بين ضحايا ضربة النابالم على بلدته، لمّا تعرف على قلادة المفاتيح الخاصة بأبيه بين قطع الفحم غائبة المعالم. أبو يحيى، السيد محمد جاموس، مدير المجلس المحلي في الشيفونية، ارتقى مع خمسة من زملائه حرقاً وهم يسعون لتأمين طعام عائلات من البلدة، لجأوا إليه فآواهم في القبو تحت مكتبه. لم يكن السعيُ تحت غارات الطائرات الحربية وراجمات الصواريخ من بين توصيفات أعضاء المجلس المحلي الوظيفية عندما انتخبهم أهالي الشيفونية لإدارة الشؤون المدنية لبلدتهم، لكن الجميع بات يعرف الآن أن أصوات الناخبين في البلدة الصغيرة كانت لرجال لم ينتظروا قراراً سياسياً محكوماً بالفيتو، أو هارباً منه، ليقوموا باستجابة إنسانية. امتلكوا ضميراً حيّاً وفائضاً من الشهامة والأخلاق، يكفي لمعادلة النذالة والعهر في هذا العالم البائس.
الطفل أحمد الأحمد هو الشهيد الثالث من ضحايا ضربة الكلور على بلدة الشيفونية، شهوره التسعة بالكاد علّمته المناغاة بكلمة «ماما»، ولم يعرف بعدُ أن العالم الذي جاء إليه فيه مجلس أمن اتخذَ قراراً منذ 2015 بمعاقبة من تتم إدانته بجريمة استخدام السلاح الكيماوي في سوريا. ربما كان أحمد سيصبح صديقاً للطفل محمد شهاب في المدرسة عندما يكبران، لكن الضربة نفسها أودت بحياة الأخير أيضاً، ولحقتها ضربة نابالم فَحَّمَت جثمانه وجثمان أبيه أيضاً.
قد لا يعني شيئاً للأمّين أن الطفلان الآن صديقان في عالم آخر عادل، لا يُحكَمُ بحقّ الفيتو الذي يجعل المستضعفين في الأرض لقمة سائغة للقروش الكبيرة؛ تأكلهم أو تمتصّ خيراتهم، بينما تتعامى باقي مخلوقات المحيط عن الفضيحة.
في الغوطة الشرقية هناك حالات طبية تحتاج لإمكانات وتجهيزات متخصصة غير موجودة في المنطقة التي يحاصرها النظام منذ خمس سنوات. في آخر 2017، بلغ عدد هؤلاء المرضى بحسب العاملين في القطاع الطبي 1036 مريضاً. تم إخلاء 37 منهم إلى دمشق، وتعامل معهم النظام كرهائن محتجزين، وسُجّلت حالات اعتقال وتغييب بين المرضى ومرافقيهم. وما زال العدد على القائمة يتناقص، ليس لأن المنظمات الدولية التي قُدِّمَت لها القائمة تنجح بإخراج المرضى من معسكر الاعتقال إلى المشافي، وإنما لأن المرضى يموتون، ولأن العاملين في الطبابة في الغوطة الشرقية وجدوا أنه من العبث أن يستمروا بإضافة حالات جديدة إلى قائمة الإخلاء الطبي الإسعافي. التحديث الوحيد الذي يجرونه الآن هو شطب أسماء الموتى منها.
وترسيخاً للعبث والاستخفاف بأرواح الناس، كانت الأمم المتحدة قد توقفت عن إحصاء ضحايا الحرب في سوريا منذ بداية 2014.
لسكان الغوطة المعذبين صوت. رغم تحوّل بلدهم إلى معسكر اعتقال يتم إعداده للمحرقة منذ خمس سنين، ورغم القصف المستمر فوق رؤوسهم والذي تصاعدَ في الأيام الأخيرة، ورغم جراحهم المفتوحة، كانوا يسعون في بناء بلدهم بعد أن استلموا زمامها.
في الغوطة هناك مؤسسات رسمية بديلة هي من الناس وللناس، هناك تعليمٌ نجح باستيعاب الأطفال الذين فتحوا أعينهم ولم يروا شيئاً من الدنيا غير الحرب، فضلاً عن تمكنه من إعادة الأطفال المنقطعين عن المدارس إليها. نتكلم عن 52 ألف طفل انقطعوا عن التعليم مرة أخرى بسبب التصعيد الحالي. هناك مؤسسات طبية تقدم الرعاية الصحية لكل سكان الغوطة مجاناً وبنوعية عالية رغم قلّة الموارد، إلى درجة أن المرضى كانوا يصلون من دمشق إلى الغوطة عبر أنفاق التهريب -قبل إغلاقها في بداية 2017- لإجراء جراحة أو استشارة في منشآت الغوطة الطبية، وعلى أيدي كوادرها التي اكتسبت خبرات هائلة بسبب غزارة العمل. كما أن هناك مشاريع كبيرة للنظافة والصرف الصحي والبنى التحتية، تفوقت على نظيراتها في مناطق غير محاصرة أو أكثر استقراراً.
وبالإضافة إلى كل ذلك، في الغوطة مجتمعٌ مدنيٌ حقيقي، فيه منظمات متخصصة تقدم الخدمات وتدعم المجتمع وتَماسُكَه.
في الغوطة الشرقية المحاصرة: انتخابات، مجتمع مدني، عمل تطوعي غير تابع للسلطة، صحافة وإعلام ملون، نقدٌ لسلطات الأمر الواقع، احتجاجاتٌ ومظاهراتٌ متكررة ضد حكم العسكر أو تصرفاتهم.
بينما في مناطق يسيطر عليها النظام: صور رئيس النظام وصور حلفائه من الزعماء غير السوريين، تجنيدٌ إجباري في معارك ضد السوريين، حملات دهم واعتقال، كل المؤسسات التجارية والمجتمعية تتبع للنظام أو لزوجة الرئيس أو لابن خاله، حواجز ونقاط تفتيش.
*****
لا تسألوا المعذبين في الغوطة اليوم عن شكل الحلّ. لا تطلبوا منهم -وهم تحت النار- حلّ معضلة مصالح الدول وتعقيدات راكمتها عقود من العسف والجور. معضلاتهم الكبرى اليوم تتمثل في إيجاد ماء للشرب أو طعام لصغارهم أو دواء لجرحاهم، وإن فقدوا أحداً من أحبابهم، فالمعضلة هي تجهيز قبر يضمُّ الرُفاتَ على الأرض التي ولدوا فيها، ويقبل العالمُ أن يكون شاهدَ زورٍ على انتزاعهم منها.
يفشل العالم في حماية المستضعفين في الأرض، والمهمة الوحيدة التي ينجح فيها اليوم هي صناعة التطرف. كل التعاملات الدولية في الملفات الشائكة تقول إن العالم يتحرك بناءاً على مصالح الأقوياء، حتى لو تعارضت مع العدل أو الأخلاق أو مصالح أغلبية سكان الأرض.
فماذا ننتظرُ غير خيارات عدمية عندما نستعرض مآلات بائسة أمام المقهورين؟
هذه الخيارات التي يطرحها الأشرار اليوم، ويدعون الحمقى ليباركوها أو ليكونوا شهودَ زورٍ عليها:
– بكل بساطة يُعرَض تهجير أربعمئة ألف إنسان من الغوطة إلى مكان آخر، يتعرض بدوره لما تتعرض له الغوطة نفسه، ولكن بجرعات أقل الآن. وكأننا سننقل شحنة من البضائع أو كوماً من الرمل. ثم يحرمون إلى الأبد من العودة إلى بيوتهم أو التنقل في بلدهم. بل تصل الخسّة إلى حدّ جعل السوريين أنفسهم يطلبون التهجير من مدنهم، مثل معتقلٍ تحت التعذيب يترجى جلاده أن يجهز عليه.
أثناء كتابة هذا النصّ، بدأت عملية التهجير بالفعل، وطريقةُ تنفيذها تتناسب مع قباحة أصل الفكرة: مسافة الطريق بين الغوطة ونقطة التبادل في قلعة المضيق لا تتجاوز 300 كيلو متر، لكن رحلة قافلة المهجرين تستغرق أكثر من 24 ساعة رغم وجود طريق دولي سريع بين المكانين، وذلك لأن النظام والروس الضامنين معه يجعلون القافلة تمر على القرى والمناطق التي يضخّون فيها روايتهم عن العصابات المسلحة والإرهابيين الذين قتلوا أولاد هذه القرى، طبعاً مع ما يلزم لذلك من شحن طائفي وخطاب كراهية.
– أو يتم الحديث عن استعادة النظام لأرض الغوطة وسكانها ليتصرف كقرصان على سفينة مخطوفة؛ يعتقل من أراد منهم ليتابع تعذيبه حتى الموت، ويزجّ شبابهم ورجالهم في معاركه ضدّ السوريين في أماكن أخرى ليَقتلوا أو يُقتلوا.
ليس خيالاً، هذا ما حدث مع أهالي التل وبرزة والقابون والغوطة الغربية وحلب الشرقية وكل منطقة أخرى عقدت مع النظام اتفاقيات «مصالحة».
لا مكان هنا للتذكير بأن أرقى أشكال العمل السلمي خرجت من المناطق نفسها التي تتعرض لكل أشكال الإجرام اليوم، وأن النظام ردّ بالعنف منذ البداية وعلى طول الخط، إلى أن نجح بتسميم الثورة السلمية بالعنف وقلب الأحلام إلى كوابيس.
أيضاً قبل نشر هذا النصّ، وصل الزحف البري لقوات النظام إلى قسم من بلدات الغوطة. الأخبار من هناك تقتصر على تغطية إعلاميي الجيش المقتحم «المُحرِّر»، فباقي من يمكن أن ينقل الأخبار، إما تمكن من الهرب قبل وصول «المُحرِّرين» أو أنه اضطر لابتلاع صوته أسوة بأمثاله في باقي مناطق مملكة الصمت.
– الخيار الثالث هو خرق جديد أحدثته المستجدات؛ فقد سُمح لمن يرغب بالخروج من الغوطة أن يفرّ بأولاده من الصواريخ، باتجاه المنصّة التي تطلقها. يحشرون من جديد في مراكز الإيواء، يُفصَل النساء عن الرجال، يتم استجواب الجميع، يحتاج المواطن السوري لكفيل من الجيش الباسل ليحصل على «فيزا» الدخول إلى دمشق! حتى الهاربون من الجحيم الذي أشعله النظام في الغوطة الشرقية إلى «حضن الوطن»، والذين كانت تعتبرهم بروباغاندا النظام محتجزين عند العصابات المسلّحة كرهائن، يُعاملون بدونية: على المنهكين والمعفّرين أن يهتفوا تمجيداً للجيش الباسل، عليهم أن يحملوا صور القائد المفدى، وأن يلقّنوا أطفالهم عبارات التملّق للقتلة، عليهم أن يدلوا بتصريحات مذلّة لمحطات النظام؛ يشتمون الثورة، وربما تركيا والسعودية وقطر.
سنة 1995، وأثناءَ حصار العراق، أصدر مجلس الأمن قراراً لبدء برنامج اسمه النفط مقابل الغذاء. ويُطالَبُ الخارجون من الغوطة الشرقية اليوم بهتافٍ يمجّد رئيس النظام مقابل الطعام والماء. يحدث ذلك بالفعل، وأمام الكاميرات. كان العراق المحاصر يملك النفط، ومستكبرو الأرض يحتاجونه، فطُلِب منهم تقديمه ثمناً، ولم تستحِ الأمم المتحدة من تسمية برنامجها بمضمونه المباشر: «النفط مقابل الغذاء». والآن يطلب النظام الثمن الذي لا زال أهل الغوطة رغم كل ما سُلِبَ منهم يملكونه، ويفتقر هو وأعوانه له: الكرامة مقابل شربة ماء!!
أثناء الحملة العسكرية على الغوطة، تعترف الأمم المتحدة أنها زودت الروس بإحداثيات النقاط الطبية. النقاط نفسها التي كانت على رأس بنك الأهداف لأسلحة الروس الذكية!
لم يتكلّف المجتمع الدولي عناء التفكير لاجتراح حلّ للغوطة الشرقية يحفظ باقي الإنسانية في هذا العالم، فما يتمُّ تنفيذه مرّةً يمكن تكراره مراراً كثيرة، بغض النظر عن المحتوى الأخلاقي أو الإنساني. لكن عندما يتعلق الأمر بمصالح المستكبرين، يجترح المجتمع الدولي حلولاً إبداعية من خارج الصندوق، ودون انتظار المؤسسات التي تتدخل فقط لتفرض القيود والإجراءات وآليات التحرك، كما في سنة 2013 عندما أُبدِعَت «صفقة» تسليم الترسانة الكيماوية، التي أنقذت نظام أسد من ضربة تطيح به بدت لبعض الوقت حتماً مبرماً، بعد أن ضرب الغوطة نفسها بغاز السارين وقتل في يوم واحد أكثر من 1500 إنسان.
موقع الجمهورية