الفرصة التاريخية الضائعة
وائل السوّاح
استغلَّ الرئيس بشار الأسد أحداث مصر وانشغال العالم بأجمله بما يحدث هناك، فضاعف قصفه الهمجي على الأحياء القديمة من مدينة حمص وحقَّق تقدماً ملموساً على الأرض. وثمة تقارير ترد من الثوار والإعلاميين السوريين وسكان المدينة تفيد بأن الأسد قد استخدم من جديد الغازات السامة في قصفه على حي الخالدية، الذي يسيطر عليه الثوار السوريون منذ قرابة السنتين. وقد تقدمت قواته إلى أجزاء من حي الخالدية، وباتت على مبعدة أمتار من جامع خالد بن الوليد الذي يعتزّ به الحماصنة ويكنُّون له احتراماً وتقديراً خاصين.
الإعلام العالمي والعربي مشغول كلية بثورة المصريين الجديدة، والمحللون منشغلون بتقويم الحدث المصري وتقدير عواقبه وآفاقه. وصانعو القرار في الشرق والغرب يراقبون التطورات عن كثب، وليس في ساعات معاصمهم متسع من الوقت ينفقونه على بضع مئات يموتون يومياً تحت قصف قوات الأسد وميليشيا حزب الله والحرس الثوري الإيراني في سوريا.
قبل ذلك استغلَّ الأسد انشغال العالم بتحرك الأتراك ضد حكومة أردوغان، وتطورات الأحداث في قطر، ودفع بالأمور في لبنان إلى شفير الهاوية، ليوحي للعالم بأنه قادر على تنفيذ تهديده القديم بحرق المنطقة، كل ذلك في محاولات متكررة منه لتشتيت انتباه العالم الذي كان مركزاً على الحدث السوري، فتتحرك قواته بحرية أكبر في قمع المواطنين السوريين ووأد ثورتهم.
ويبدو أن من كان يتهم الأسد بأنه منفصل عن الواقع كان مخطئاً. فالرجل يعرف بالضبط ماذا يفعل ويدرك تماماً أنه يدمِّر سوريا، وفي جعبته العديد من الخطط التي سوف يستخدمها في حال تطورت الأحداث في أي اتجاه. يعرف الأسد ما لم نكن نعرفه نحن. يعرف أن الغرب لن يتدخل لإنقاذ السوريين الذين يتعرضون للقتل والقصف والاعتقال والتعذيب والتهجير وفقدان بيوتهم ومصادر رزقهم. في المقابل، كان بين المعارضين والمحللين من يعتقد أن الغرب لا بد وأن يتحرك أخيراً، بسبب ضغط الرأي العام، وبسبب تمادي الأسد في الجرائم ضد الإنسانية التي ترتكبها قواته، والتي لامست في بعض الأماكن حد التطهير العرقي. هؤلاء كان في ذاكرتهم البوسنة والهرسك وكوسوفو وليبيا والكويت، عندما تحركت جيوش الدول الغربية، ومن دون تفويض أممي غالباً، للتدخل في تلك المناطق إما لوقف حمام الدم أو لإنقاذ المدنيين أو لتحرير بلد من احتلال جيش آخر.
ولكن الأسد كان يدرك أن سوريا ليست أيّاً من تلك البلدان، وأن جيوش الغرب التي تدخلت في تلك المناطق لن تتدخل في سوريا، بل ستكتفي بالشجب والإدانة والتنديد، وستقدم مساعدات إنسانية قد تنقذ بعض الأرواح من الجوع والمرض ولكنها لن تسهم إلا في إطالة أمد الكارثة الإنسانية التي تحيط بالبلد.
ومعركة حمص تؤكد ذلك. هي تؤكد أن الأسد ماض في حله العسكري آملاً إما إنهاء الحرب لمصلحته وإما ترك البلد مدمرة تدميراً كاملاً عند اضطراره إلى الرحيل. وهي تؤكد أن السوريين قد تُركوا وحيدين في أرض معركة غير متكافئة مع قوات النظام المدعومة من قوات الحرس الثوري الإيراني وميليشيا حزب الله. ولسوء حظِّ الحماصنة خصوصاً والسوريين عموماً تتم مجزرة الأسد الأخيرة بينما تنشغل المظلة الرئيسية للمعارضة في الخارج بخلافاتها الداخلية ومنازعاتها في اختيار رئيس لها.
استخدام الأسد الأسلحة الكيماوية بات مثبتاً ومؤكداً باعتراف الأمم المتحدة والحكومات الغربية. وتهديدات الدول الغربية ووضعها خطوطاً حمراء صارت أقرب إلى المهزلة منها إلى أي شيء آخر. وواضح أن السوريين هم الوحيدون الذين خُدِعوا بهذه التهديدات وتلك الخطوط الحمراء. أما النظام السوري فكان يعرف منذ البداية أن هذه الخطوط وهمية وأن التهديدات لا طائل من ورائها.
بيد أن الغرب في هذه اللحظات يخون مبادئه الديمقراطية التي بنيت مجتمعاته عليها. فمسؤولية الغرب ليست مسؤولية سياسية فحسب: إنها مسؤولية أخلاقية وإنسانية. وهو في تهاونه مع نظام بشار الأسد إنما يضيع فرصة تاريخية كان بالإمكان أن يستغلها الغرب والسوريون سوية لتحقيق مصالحة تاريخية بين الطرفين. ففي أشهرها الأولى غيَّرت الانتفاضة السورية من نظرة السوريين إلى الغرب، وبدأت مرحلة من إعجاب السوريين بمواقف الغرب الداعمة للثورات العربية، والمشجَّعة لهم في انتفاضتهم. ومعروف أن السوريين في معظمهم لا يكنُّون ودَّاً خاصاً للغرب. ويعود ذلك إلى تأثيرات بقايا الحقبة الكولونيالية من جهة وموقف الغرب المنحاز إلى إسرائيل وإيديولوجيا البعث التي طالما تاجرت بهذا الموقف. وقد نما بين الطرفين سوء فهم متبادل وخوف متبادل وكراهية متبادلة.
بيد أن الانتفاضة السورية ضد الأسد فتحت أفقاً واسعاً أمام الطرفين كان من الممكن الاستفادة منه وتجييره بحيث يستطيع الطرفان فهم بعضهما بشكل أفضل وبالتالي تصحيح العلاقة المتوترة تاريخياً بينهما. وجاءت المواقف الغربية الداعمة للثورة لتثير أملاً لدى السوريين في أن الغرب سوف يصحّح مسار علاقته بالنظام السوري، ويدعم الحراك المدني السلمي.
لقد كان من شأن ذلك أن يؤسس لعلاقة مستقبلية بين السوريين والحكومات الغربية تقوم على الفهم المتبادل والاحترام المتبادل والمصالح المتبادلة. ولم يكن غريباً أن ينعكس ذلك على المنطقة كلها، ما يمكن أن يتولَّد عن إقامة سلام حقيقي بين العرب إسرائيل، وهو ما كان المجتمع الدولي يحلم به ويعمل من أجله منذ عقود.
هل انتهى كل ذلك؟ إن كل تقدم يحققه النظام السوري وشبيحته هو خطوة نحو نهاية تلك الفرصة التاريخية ونحو انغماس سوريا في مستنقع من الكراهية والعنف يمكن أن يكون الخروج منه مستحيلاً. وستغدو الفرصة السانحة في تصحيح العلاقات وقيام بلد ديمقراطي يتعامل بانفتاح مع محيطه الإقليمي وينضم إلى نادي الديمقراطيات الدولي سراباً لا أمل في تحقيقه. فهل سوف يستغل الجميع النداء الأخير؟
المدن