الفصائل المسلحة وحروبها الأهلية في سورية/ طارق عزيزة
انقسام المعارضة السياسية السورية إلى كتل وتجمعات متناثرة ومتخاصمة، من بين الأسباب الأهم لضعفها المزمن وخيباتها المتكررة، فضلاً عن دوره في تعثّر الثورة السورية ودفعها إلى مآلاتها المأساوية. الأخطر من ذلك وقد كلّف كثيراً من الأرواح والدّماء وأمدّ النظام، أو ما تبقّى منه، بالمزيد من أسباب البقاء أيضاً، هو تشرذم «المعارضة المسلحة»، والصراعات التي لا تنتهي بين تشكيلاتها المختلفة، التي يفترض أنها على ضفة واحدة في مواجهة الأسد وحلفائه.
الأمثلة أكثر من أن تُحصى: اشتباكات في الماضي بين مجموعات تنتمي إلى «الجيش الحر»، وأخرى بين كتائب الأخير وكتائب جهادية، وغيرها بين الجهاديين أنفسهم. والمعارك التي وقعت في ريفي إدلب وحماه أخيراً بين «هيئة تحرير الشام» و «جند الأقصى»، وقبلها معارك ريف حلب بين «حركة أحرار الشام» و»الجبهة الشامية»، ما هي إلا نماذج لصراعات دورية لا يبدو أنها ستنتهي قريباً. فحالات التقارب والتنسيق التي كثيراً ما فرضتها العمليات العسكرية الكبرى ومتطلبات الواقع الميداني في بعض الظروف، لم تلغ صراعات الفصائل. في أحسن الأحوال أدت إلى تجميدها أو إرجائها إلى حين. لكن، حتى هذا لم ينجح دائماً، إذ يحدث أن تتركّز جهود الفصائل في حروبها الأهلية وليس في التصدي للنظام وحلفائه المتربّصين بها، على نحو ما شهدته أحياء حلب الشرقية المحاصرة من اشتباكات فصائلية، قبل أيام فقط من سقوطها. كذلك الحال في الغوطة الشرقية، حين تواصلت المعارك بين «جيش الإسلام» و «فيلق الرحمن»، على رغم استغلال قوات النظام للوضع حينها وتقدمها في محيط الغوطة المحاصرة.
على أنّه من الواجب القول إنّ حالة الاقتتال والتناحر الفصائلي في سورية، كانت في حدودها الدنيا حين كان «الجيش الحر» العنوان الوحيد لحمل السلاح في وجه آلة القمع الأسدية، لكنّها ازدهرت في شكل أكبر بعد ظهور المجموعات السلفية وخطابها الجهادي، خصوصاً مع بروز الفصائل الأكثر تشدّداً بينها، بأجنداتها ومشاريعها الإقصائية.
وسواء كان ذلك خياراً أم اضطراراً، فإن انزلاق الثورة السورية في أتون العسكرة والتأسلم شكّل الأرضية الملائمة لانتشار ما يمكن تسميته «فوضى جهادية»، حيث وجد تيار «الجهاد العالمي» موطئ قدمٍ راسخاً في سورية، بدايةً عبر الفرع السوري لتنظيم «القاعدة»، «جبهة النصرة» سابقاً، ثم التنظيم الأكثر تطرّفاً الذي تمرّد على قيادة «القاعدة» ليصبح «الدولة الإسلامية» أو «داعش»، إضافة إلى ما بينهما من جماعات صغرى «قاعدية» المنهج أو «داعشيّته»، تنتقل ولاءات بعضها بين هذا وذاك، فيما يعمل بعضها الآخر باستقلالية نسبية بمنأى عن خلافاتهما.
لقد أدى طغيان الصبغة الإسلامية لدى الفصائل المسلحة إلى انحسار «الجيش الحر» تدريجياً، ومعه انحسر الخطاب الوطني الجامع وعلم الثورة، لمصلحة خطاب دينيّ فئوي تظلّله رايات الفصائل الجهادية المختلفة. وضمن الطيف الواسع للمعارضة المسلحة، وفي ضوء تطورّات الوضع الميداني، وقعت خصومات وانشقاقات ونشأت تحالفات واندماجات، لم تكن الأيادي الخارجية بعيدةً عن الكثير منها. في المحصلة سيطرت السلفية الجهادية على المشهد العسكري، وغدت تنظيماتها صاحبة السلطة الفعلية في معظم ما سمّي يوماً «المناطق المحررة».
وعلى اختلاف درجات تشدّدها، إذ تضفي صبغة دينية على أفعالها، فإن الجماعات الجهادية مهما ارتكبت من أخطاء أو دفعتها «البراغماتية» إلى اتّخاذ مواقف متناقضةٍ في بناء التحالفات أو الإنقلاب عليها، تُسند ذلك كله إلى حجج «شرعية»، وتُبقي سيف «الشريعة» حاضراً لتسوية الخلافات التي قد تحصل مع الحلفاء ولو كانوا من «أخوة المنهج». في أجواء كهذه، لم تعد الأسباب «الشرعية» وتغليف الخلافات بأردية دينية حكراً على الكتائب الجهادية، وإنما باتت وسائل يستخدمها الجميع، فهي تسوّغ للمتقاتلين الانشغال بتصفية بعضهم بعضاً عوضاً عن مواجهة النظام.
إنّ القاسم المشترك بين الجماعات الجهادية، على ما بينها من فروق نسبية واختلافات وخلافات متعددة المستويات، أنّها ترى نفسها نقيّةً فيما تنظر إلى الآخرين على أنهم في حاجة إلى التنقية، سواء على مستوى الاعتقاد أو الممارسة أو كليهما معاً. زد على ذلك أنّ أيّ واحدة من هذه الحركات الدينية – العسكرية، لا تقبل بسهولة أن يشارك سلطتها أحد، لذلك تجدها لا توفّر جهداً في إضعاف الخصوم والمنافسين، بل الحلفاء أيضاً، بهدف الهيمنة عليهم. هذا يفسّر، إلى حد كبير، لماذا لا يكاد ينتهي صراع بين هذا وذاك من الفصائل الجهادية حتى يبدأ آخر، في سلوك يكشف الوجه الحقيقي لطبيعة العلاقات التي تربط هكذا جماعات مع بعضها بعضاً، على رغم ادعاءاتها الأيديولوجية المتشابهة، ودعوات التوّحد والاندماج المتكررة.
علاقات التعارض والتنافس تلك ليست خارج دائرة تأثير اختلاف إرادات الداعمين والممولين وتباين أولوياتهم، ولا شكّ في أن خلافاتهم ستلقي بظلالها على الواقع الميداني ونوع العلاقات بين القوى المختلفة، التي لديها ما يكفي من أسباب الصراع، المتعلقة بالاستحواذ على الموارد وتعزيز السيطرة والنفوذ، فضلاً عن التنافس بين القادة وطموحاتهم الشخصية.
أخيراً، فإنه على رغم المحاولات الدولية الرامية لإنعاش مسار جنيف التفاوضي، بزعم الرغبة في إيجاد تسوية سياسية تضع حدّاً للصراع الدائر في سورية، فإن هذا الصراع يمضي إلى مزيد من التعقيد، لا سيما في الشقّ العسكري – الميداني منه، مع تعدّد الجبهات وتبدّل التحالفات كما العداوات، ما يعني استمرار الحرب بصور مختلفة. وعلى امتداد الجغرافيا السورية، يتواصل العرض الدمويّ، ويستمرّ استنزاف حاضر السوريين وما تبقّى من احتمالات الحياة والمستقبل لديهم.
الحياة