الفن والشعر.. البدايات المتجددة
عبد الوهاب الملوح
إذا سلّمنا إن الفن هو عملية تحويل المادة من حالة جامدة إلى عنصر حيوي متدفق النبض تنبعث في مواتها أسباب الحياة مما يجعلها كائنا يتوفر على مقومات الوجود الأسمى هذا السمو الذي سيعلّي من شأن مجرد واقعة عابرة؛ عرضية إلى رؤيا كونية تتصدى لإشكالية الكينونة ومسألة الوجود كهاجس جماعي أو فردي وإذا بالفن أيضا هو التعامل مع المعاناة بوصفها تجربة ذاتية / جمعية بما تختزنه من موروث أسطوري فولكلوري وديني يقاوم من أجل بقائه وتجليه كمقوم من مقومات ال وجود في تصادمه مع متغيرات الواقع الحداثية هذا التصادم الذي سيكون مصدرا من المصادر القوية للإضافة والتجاوز بل ما يحولها إلى وقود وطاقة فعالة تضفي على الوجود مشروعية السؤال الجمالي ما يكفل لها قدرة الخلق وبعث الحياة في المادة الموات, إذا سلَّمنا إن الفن هو تلك القدرة على الابتكار من اللاشيء وذلك الإيمان بقوة الكائن وما يمتلكه من إمكانات للعطاء وهو أيضا تلك القابلية على التجدد المستمر و الانقلاب على السياقات المألوفة ليس بمعنى الثورة ولكن التحرر بما هو فكاك من النمطية وعقيدة الفن الجوهرية هي التحرر ؛يًصبح وقتها من المشروع مراجعة وجهة نظر هيغل بل تأكيد بطلان نبوءته بموت الفن وانهزامه أمام ما تحققه العلوم الحديثة من قفزات بمنتوجاتها التقنية والرقمية الآن. بل سوف يتوجب إعادة النظر في تاريخ الفن ككل ليس باعتباره مسحا انطولوجيا يقوم على استعراض المفاهيم والأفكار واستقراء المبادئ التي قامت عليها المذاهب والمدارس الفنية ؛ لقد قام تاريخ الفن على المراجعات وعمليات المسح بما هي جرد وتثبيت لأهم المدارس والأفكار التي إما تُنظِّر للفن أو تؤرخ له من وجهة نظر مدرسية باعتبار لي ثمة ما هو أبدع مما كان وليس الفن ذلك الذي يتيح للإنسان وقد استعاد ذاته بكل تدفقاتها الانفعالية وتوهجاتها العاطفية ونوازع وجدانها أن يشعر إنه مركز الكون ومبرر الوجود وإذا الفنان ذلك الذي يُعدُّ الفن وعاء يصبُّ فيه ما يجيش به صدره من مشاعر وأحاسيس ومآس ومباهج وما يتبع ذلك من تهويمات وخواطر وهذيان مسترسل وأحلام وردية فليس الفن مجرد أحاسيس ومشاعر وانفعالات عاطفية هدفها إعادة الاعتبار للذات المنكسرة بمعزل عن الوعي بجملة أخرى من الأسباب الاجتماعية والسياسية ..ألخ لهذا ا الانكسار؛ وكما توقف الفن أن يكون مجرد تطهير بما هو محاكاة للطبيعة وتصويرها على اعتبار إنها المثل الأعلى ؛كما توقف أن يكون تراجيديا الإنسان في صراعه مع الآلهة في تصادمه مع كائنات لا تتقوّى إلا بأنها من صنع الإنسان وإنها فنه الأرقى- لعل الدين من صنع الإنسان بل وفنه الأرقى أيضا – فقد توقف أيضا على إنه تلك النظرية التي ترى فيه انعكاسا للواقع وتمثلا له بالتصدي لمشكلاته ومن ثمة تغييره وبالتالي إنتاجا لواقع مغاير كما لو إن الأثر الفني سلعة والفنان موظف اجتماعي وفي أفضل الأحوال مؤرخ لهذا الواقع يقوم دوره على الإصلاح والتوعية ومن ثمة التغيير حتى ان أصحاب ذهب في اعتقادهم إن الفن وسيلة من وسائل الإنتاج وبالتالي فلا بد من فن حقيقي يعبر عن الطبقة الكادحة في مواجهتها لأصحاب رأس المال في مرحلة أولى على أن يتحول من بعد إلى وسيلة إنتاج للواقع بمنأى عن المشكلات الحقيقية للفرد ؛غير إن النفور من الواقع والطبيعة و الذات وما نتج منه من لجوء إلى الحلم والإيغال في التجريد والمبالغة في تشفير النشاط الابداعي أو الاحتفاء بعوالم خارقة غرائبية بما يستدعيه من توظيف للأسطورة وتركيز على ما يحفل به المخزون الخرافي؛ فالإيغال في هذه العوالم الرمزية أو الغرائبية بقدر ما يوسع دائرة الفن ويضخها بموتيفات مختلفة المصادر فيضفي جمالية ذات طرافة غير انه يحدد خططا مرسومة مسبقا ويضبط قوانين صارمة على المبدع أن يلتزم بها وهو وإن أدَّى إلى تحقيق تراكم كمي فهو لن يضمن استمرارية الفن وطزاجة آثاره وطراوتها ومن ثمة أصالتها وجدَّتها فإنما هي تلك الآثار المتمردة على السياق التي تبتكرها لحظة وعي جمالي مختلف ومتفرد كنوع مستقل وبقدر ما يتناسل هذا الوعي ويتكاثر فإنما ينزع نحو التراكم النوعي الذي يحقق التجدد الخلاق النضر فتاريخ الفن هو تاريخ تأزماته وانقطاعاته الإبستيمية, تاريخ الوعي به كاختراقات عميقة وعنيفة في صلب المسارات نسفت المفاهيم وخلخلت الثوابت وإذا بالفن معرفة وقوة ؛ هو إرادة كينونة حسب ما قاله هيجل نفسه: ’’الجمال هو الأسلوب الوحيد المحدد للتعبير عن الحقيقة وتقديمها والفن لا يعكس الواقع بل الروح المطلقة والفن شأنه شأن الدين والفلسفة يخدم مسألة واحدة هي بحث الروح المطلقة عن ذاتها’.’ الخيال لقد ظل هاجس الإنسان منذ بدء الخليقة البحث عن وسائل التواصل مع بقية الكائنات وسائل للتعبير بأكثر الأشكال بساطة وهو ما يجعلها أرقاها جمالا فليس من شك إن تلك المنمنمات والخطوط العشوائية في ظاهرها المنسجمة في أعماقها والتي كان يحفرها الإنسان البدائي على جدران الكهوف هي أصفى جمالا وأبلغ من الفنون التشكيلية الحديثة في تعقيداتها الإيقاعية وهو ما يؤكد إن الإنسان -شبه الحيوان- بحكم ما يتمتع به من سيولة في الخيال وتداعيات حرة مدعومة بالمقارنات الجريئة تسوِّي بين ما هو مقدس (إلهي) وما هو دوني قذر خسيس هو أكثر حداثية من إنسان القرون الأخيرة. لقد وُلد الفن مع الإنسان طالما إن هذا الأخير كان لديه هذا النزوع العفوي نحو المجاز للإفلات من سلطة الطبيعة والفكاك من هيمنة البقاء في ظل محاكاتها واستنساخها لذلك كان ثمة دائما هذا اللجوء إلى التشبيه والتداعيات المغرقة في المقارنات وهي تتواتر انتهت إلى رسم صور شكلها ا لخيال البشري تتوفر على قدر من الجمال فاق في بعض تجلياته مظاهر الطبيعة , لقد حررت المخيلة الأشياء من مسمياتها وأعتقتها من الأمكنة المحبوسة فيها ومن هنا امتلك الفن قوة تستمد طاقتها من إرادة التجاوز بالخلق والإبداع ومن إيمان ضروري بالجمال . إن المنهج الذي يؤرخ للفن من وجهة نظر مدرسية ويلخصه في بعض مدارس أو يصنفه وفق منطق الجيتوات المذهبي أو ينسبه للمؤسسة هو منهج قاصر بالتأكيد بل وخائن لمبدأ الفن الذي يقوم أساسا على التحرر بالتجدد وهو قاصر ليس فقط لأنه يعتمد أسلوبا خطيا أو لأنه يحاول ترويض وحش غامض كامن في أعماق الذات الإنسانية- فردا أو مجموعة – متمرد على الطبيعة وليس لأنه يسعى لتقنين الفوضى على اعتبار إن العملية الإبداعية التي تحقق الفنية إنما تنتجها حالة غير مستقرة حالة هائجة من الأفكار تمتزج بالمخيلة بالمعاناة ولكن لأنه لا وجود لخطة مسبقة في الفن ؛ إنه النشاط البشري الوحيد الذي يتشكل وينتعش فيتدفق ويكون من اللحظات الفارقة والتوجسات البوهيمية من ميكانيزم بلا محركات وما يهجس به الحدس من دوافع للتوهج فـ: “الأشياء الغامضة تحث العقل على ابتكارات جديدة’’ كما هتف ليوناردودا فنشي ذات يوم غير إن مشكلة الفن هي مشكلة إيقاع أيضا لذلك لا تزال فكرة الفيثاغوريين قائمة إلى الآن من أن الانسجام والإيقاع أصل الوجود. ليس ثمة من نظرية تعرف الإيقاع كما ليس هناك حقيقة تحدد الإيقاع وما سيزيد الطين بلة إن لكل إبداع إيقاعه بل لكل مبدع إيقاعه الخاص الذي سوف يميزه عن معاصريه ويجعله يتفرد ويحقق منجزه الفردي المختلف جماليا وفكريا غير ان هذا الإيقاع قد يخون الفن الحقيقي ويعطي انطباعا على انه الفن الأصح والأجمل كما هتف غوتة ذات يوم منبها: ’’الإيقاع مغر لقد امتدحوا قصائد سخيفة تماما وذلك بسبب إيقاعها الناجح’’ وكما يوهم نجاح الإيقاع إذا بنجاح الأثر الفني حين يتقن الفنان في أي مجال فني ترويض حدسه وتشكيله وفق معايير مضبوطة المقاييس,صارمة المؤشرات فيجيء منجزه لافتا في لحظته خلبا للأنظار والأسماع والأذهان غير انه سرعان ما يفقد ألقه ويخبو توهجه كذلك يحدث مع الأعمال التي تحاول أن تكرر نفس التجربة وتعيد إنتاجها أو تنوع عليها في عملية استنساخ سوف تُفتضح بحكم أساليبها التي تنزع إلى تكرار الأصل مع إضافة بصمة ذاتية لن تظهر كإضافة في العمل ككل ؛ كما يحتاج العمل الفني إلى امتلاء سوف يلزمه أن يتجاوز هذا الامتلاء ويتخلص منه ليقدر على تحويل المادة إلى عنصر ينبض حيوية . إن ’’اللعب’’ والعبارة لـ’’كانت’’ في نفس الساحة ليس أمرا معيبا غير انه سوف يصير عطالة إذا لم تكن فيه لمسة فنية مغايرة تحقق جوهر اللعب: المتعة والإضافة. وكل استقراء لمسيرة الفن لا يضع في الحسبان هذه الأفكار هو قراءة خادعة وخائنة فتاريخ الفن هو تاريخ الطوارئ فيه, بدءا من هوميروس مرورا بهوراس والنحت في الشرق الأدنى والشعرية العربية الجاهلية والانقلابات التي حدثت على مستوى الوعي الجمالي سواء في الأدب أو العمارة أو في أشكال تسيير الحياة اليومية في الأندلس أو ما جاءت به النهضة من أفكار والثورات التي أعلنت تمردها على أفكار النهضة الفنية وصولا إلى التحديات التي يواجهها الفن أمام الزحف الرقمي. روح المغامرة المهم ؛ إن الفن غير قابل للتقنين وهو يقاوم من اجل أن يبقى قيمة غير قابلة للتعديل أو المساومة في مواجهة المحاولات التي تعمل على تدجينه وضبطه وفق مذاهب أو مؤسسات أو مدارس ولقد التجأ الفن طبعا فيما ينجزه الفنانون إلى التجريبية باعتبارها سبيلا للبحث واختبار أساليب مغايرة وتحريرا للمخيلة في جموحها وهي تحلق في عوالم عير معهودة تتنفس في مناخات مختلفة و تستكشف مجاهل تُجلي ما خفي من جمالياتها غير المعهودة ؛ هو التجريب أيضا يُطَوِّع أدوات الفن من أجل الاحتفاء بأشياء الواقع العادية يتوقف عند التفاصيل الصغيرة ويحتفي باليومي في ما يتجلي من العرضي ؛ هذا الطارئ الذي سوف يؤكد قوة حضور البديهة وجمالية التلقائية ؛ إن الخوض في هذه العوالم كإفساح المجال للتخيل دونما قيد واحتفاء باليومي وما يحويه من دوني ومهمل ومهمش وتحويل كل هذا إلى مادة فنية لهو سبيل للخلق بما هو وجه من وجوه البحث عن الجمال من خارج القواعد بمنأى عن النماذج وهو ما حول وجهة الفن تماما من شيء معطى إلى بحث مستمر ودونما توقف عن الأجمل ؛ ولعل الفن هنا استفاد من العلم والتطور التكنولوجي في مجالات عدة من مثلى السينما والفن التشكيلي والعمارة والنحت والموسيقى وهو ما أدى إلى ثورة في مفهوم الأدب الذي استثمر منجزات الفنون البصرية لتطوير الأجناس الأدبية من الداخل من مثل الرواية والشعر والمسرح بل و استحداث أنواع أدبية لم تكن موجودة من قبل ؛ غير انه لا بد من التأكيد على روح المغامرة و لحظات الوعي الجمالي الفارقة التي عبر التاريخ التي أوصلت بالفن إلى تقديم منتجات فارقة أيضا ودونما أسبقية لها فلا بد من الإشارة إلى الكوميديا اللاهية وأعمال ليوناردو دافنشي وأعمال ميكيل انجلو ميريزي والملقب كارافاجيو من بعده وخاصة لوحته ’’موت العذراء’’ وقد أدخل تقنية إدخال الضوء والظلال وهو ما سيحدث ثورة فيما بعد تحدث قفزة نوعية في الفن التشكيلي في كيفية التعامل مع البياض والتعامل مع الفراغ والألوان بكيفية إحداث انقلاب في الرؤيا المألوفة للألوان سواء إن كان الطبيعية أو الاصطناعية أو الفنية ولعل أهم انقلاب في هذا السياق إن للألوان سياقاتها الدلالية وهي كائن حيوي تقول كما تقول الكلمة في الأدب وتقول كما تعبر الحجارة مرصوفة في هيكل معماري فتهتف في من يتفرج فيها جمالا مختلفا بحيث يتهجى أبجديات وجودها من خلال ترصفها وتقول كما يهتف رجل في الشارع هنا مفارقة الفن الحقيقة إنها تهب الأشياء كينونتها الحقيقية / الحقيقية ويمكن القول نفس الشيء بالنسبة لفن العمارة حيث كانت القترة القوطية هي الممهد للانقلابات الكبرى التي أنجزها مهندسو العمارة الحديثة. إن الفن هو التجريب ؛ تجريب القدرة على احتمال الحياة في تصريفاتها المجهولة دونما اللجوء إلى قوى غيبية أو قوى موهومة ؛ الشعر قوة للتحرر؛ ا لموسيقى قدرة على اختراق مجهول الموت؛ الفن التشكيلي تأويل مختلف ومتخلد لحالات الطبيعة في متغيراتها ؛ الطبيعة بما فيها الإنسان ومتعلقاته . الفن هو التجريب ؛ تجريب قدرة الوعي على التأقلم مع المختلف ؛ قدرة الوعي على تحويل الموت إلى حياة ؛ قدرة نرويض ما هو متوحش على أن يكون مألوفا في نفس الوقت متوحشا ؛ قدرة تحويل ساعة الحداد إلى امتلاء أيضا . الحداد إلى امتلاء أيضا. كيف يمكن الامتلاء بالجرأة وليس فقط الإحساس بالمغامرة بل إنجاز المغامرة والخروج بشيء مختلف في صلب الجمال ؛ لعل هذا هو المطلوب ممن يبحث عن تأريخ للفن؛ انه تأريخ انقطاعا ته مع سلفه وتأريخ بداياته المتجددة ؛ ليس ثمة من إرث للفن وليس له من ماض. الفن لا تاريخ له غير ما يبدعه من جمالية وفق مزاجية الراهن غير ما لا يؤسسه ذلك ان الفن ليس قابلا للتاريخ كما الإنسان والطبيعة؛ إنه الكينونة. وللحديث صلة مع ناس خرجوا عن السياقات المعتادة وأبدعوا فنجحوا خارج الأطر المعتادة في الموسيقى أو الشعر أو العمارة أو المسرح أو الطهي أو موضة الملابس أو السينما …
السفير